في الأسبوع الماضي وفي خطوة مفاجئة، قدم رئيس الوزراء الأسترالي "كيفين رود" اعتذار أستراليا الكامل إلى سكان البلاد الأصليين عن المظالم التي لحقت بهم طوال قرنين من الزمان. كان ذلك خطاباً تاريخياً سمعه من كان تحت قبة البرلمان الأسترالي والعالم جميعاً، ومعهم أحفاد الجلادين والضحايا. قال رئيس الوزراء: "نقدم اعتذارنا عن القوانين وسياسات البرلمانات والحكومات المتعاقبة التي ألحقت المعاناة، وتسببت في الخسائر، لمواطنينا الأستراليين". كلمات قليلة بسيطة لكنها عظيمة المحتوى بالغة الدلالة، سمع تلك الكلمات العالم كله، إلى جانب سبعة آلاف شخص من السكان الأصليين، الذين احتشدوا في الحدائق المحيطة بمبنى البرلمان الأسترالي. وعندما نطق رئيس الوزراء بكلمة "آسف" أخذ هؤلاء السكان والناشطون المؤيدون لهم يُهلِّلون وسُمِعَ بُكاء ونشيج الكثيرين منهم، الذين تاقوا لسماع مثل هذه الكلمة منذ 200 سنة، أو أكثر. كانت سياسة البيض الاستعمارية بغيضة جداً وغير إنسانية، انتزعوا الأطفال من أمهاتهم بعد أن قتلوا الرجال والصبيان، وتورد التقارير الصحفية المنقولة عن وكالات الأنباء أن واحداً من كل ثلاثة من أبناء السكان الأصليين اُنتزِعَ من عائلته في الفترة من 1910 حتى عام 1970، ويمثل الآن السكان الأصليون ما نسبته 2% من مجموع سكان أستراليا، أي 460 ألفاً مقابل 21 مليون نسمة أتوا وآباؤهم وأجدادهم من خارج القارة القصيَّة، وحتى هؤلاء الباقون مهمشون وترتفع في أوساطهم معدلات وفيات الأطفال والبطالة والسجناء والمرضى. ... يقول أحد شيوخ القبائل المسروقة والمغتصبة والمقتولة: "هذا يجعل المجتمع الأصلي الذي وجده الغرباء هنا قبل قدومهم، يشعر ولأول مرة منذ زمن طويل، بأنه بحق جزء من أستراليا، وأن الأمة الأسترالية كلها تحتضنه... أخيراً". موضوعنا اليوم ليس عن أستراليا، ولا عن العشائر الطوطمية القديمة التي عاشت في القارة الأسترالية منذ أزمان سحيقة، موضوعنا اليوم عن (الاعتذار) هذه الكلمة العظيمة السامية والتي تداوي جروح الأحقاب والعقود بمجرد قولها وسماعها، ورفضها والتعنت والاستكبار في نطقها يجعل الآلام الإنسانية فوق الاحتمال، ويدفع بالثارات والعواقب الوخيمة إلى الواجهة كلما سنحت فرصة الأزمان، وسيحصل هذا لكل جبار متغطرس لأن التغير سمة كونية وبقاء الحال من المحال، وهناك يتمنى من هز كتفيه ورأسه دلالة على الرفض أنه قال كلمة من ستة حروف قد تداوي جروحاً نفسانية واجتماعية لأجيال متعاقبة. هكذا وصلت معرفة هذه الحقائق لـ"كيفين رود" رئيس وزراء أستراليا، ولآخر رئيس وزراء أبيض في جنوب أفريقيا و"نلسون مانديلا" قبِـِلَ الاعتذار مُعلناً عن حقبة جديدة سميت حقبة التسامح والغفران. المشكلة الكبرى هي عندما تسقط الأمم في حروب أو مغامرات اقتصادية حمقاء، أو عندما يجرِّب القائمون على شؤونها خططاً وبرامج غرائبية -يقال إنها تنموية- مليئة بالأخطاء الواضحة، ثم يجعلون الأمة كلها تدفع الثمن الغالي من الدماء والدموع والأرواح والمال، في سبيل (نزوة) قائد أو فصيل أو مجموعة، ثم لا يعقب هذا حتى كلمة (اعتذار)، يتحمل بعدها المعتذر مسؤولية ما حدث من نكسات أو جرائم... أو تفليسات. كل تلك النماذج تتزاحم في أوساطنا العربية... ليس في الوسط بل في الأمام، حيث القائد الذي لا يهزم، وصاحب النصر الإلهي أو القادسية و"أم المعارك"، والقائد الذي يُحرف النكبات لتصبح نكسات بالإمكان تجاوزها، وأكثر من مثيل آخر له داخل في تجارب اشتراكية، ليحول بلده فجأة إلى رأسمالية مشوهة بعد أن يعزلها عن محيطها الطبيعي! هناك من يقيم المشروعات المختلفة باهظة التكاليف وبعد سنين عديدة صرف فيها المال والجهد والوقت، يتبين ألاّ قمح نبت ولا مدينة شيدت. في عالمنا العربي دخل سجون الثوار كثيرون وصودرت أملاك من أُطلق عليهم البرجوازية أو الإقطاعية الاستغلالية، وها نحن نرى المساجين الذين دخلوا السجون وهم في يفاعهم يخرجون من المعتقلات التي لا تدخلها الشمس وقد شابت رؤوسهم وانحنت قاماتهم بعد (العفو) عن (جرائم) لم تحدث وخيانات (مفترضة) أين منها مصائب الحاضر؟! كل ذلك حدث في التجارب العربية الفاشلة، ما ذكرناه وما لم نذكره دون كلمة "اعتذار" أو "آسف" أو حتى "معليشْ!". ثقافة الاعتذار عن الأخطاء دخيلة علينا كما يبدو، وهي من قيم الغرب العفِن حسب رأي الشوفينية العربية، الاعتذار يعني عند العرب الضعف والمسكنة، وهو ليس كذلك لأنه قمة الشجاعة عندما يعترف المسؤول بأخطائه على أمل أن يجد هو -أو غيره- حلاً للمعضلة التي أوقع الأمة فيها... هذا الذي بيده الأمر. لكن يبدو أن أخطاءنا في كل المجالات أصبحت جزءاً من طقوس حياتنا اليومية، والاعتذار عنها قد يصرم ما تبقى من العمر، ونحن نردد تلك الحروف الستة الخالدة! إليكم أخيراً هذه القصة الطريفة: عاد شخص من أصول عربية ويحمل جنسية كندية لبلده الأم بعد غياب طويل، وفي صباح أحد الأيام مر على صديق ليأخذه في رحلة ريفية افتقدها طويلاً، وصادف أن صديقه كان يسكن بجوار مستشفى، ولأن هذا المغترب أقام أكثر من شهر في بلده الأم وتطبَّع سريعاً بطبائع أهلها، لأنه كذلك ضرب (زامور) السيارة بشكل قوي حتى يُعلم صديقه بأنه ينتظره في الأسفل، وفجأة ظهر من تحت الأرض شرطي مرور ليعاقب هذا السائق ويقول له إن الأصوات العالية غير مسموح بها بجوار المدارس والمستشفيات، وعلى الفور أقر المغترب بخطئه و(اعتذر) لكن جندي المرور قال له إن هذه الكلمة لا تعني شيئاً، وإنه لابد أن يدفع ثمن خطئه، فوافق صاحب الجنسيتين على هذا العقاب وسأل: كم أدفع؟ قال له المروري (خمسون..!) أخرج المعتذر ورقة بمئة... ودفعها للجندي المحافظ على النظام، ثم طلب منه أن يأخذ خمسين ويعطيه الباقي مع القسيمة، فرد عليه المؤتمن على النظام والهدوء: لا يمكن هذا! الخمسون لمخالفتك الأولى، أما الخمسون الباقية فاضرب بها (زاموراً) آخر، حتى نُبرر احتفاظنا بالنصف الثاني من ورقة المئة... وبدون اعتذار!!