بعد مائتي عام من التهميش والتعذيب تقر الحكومة الأسترالية بأنها أساءت إلى شعب أستراليا الأصلي "الهابورجينز". هل سيقبل أولئك المركونون قسراً وقهراً في زاوية خفية في القارة الضخمة الملأى بخيرات الطبيعة وثروات المكان؟! أزعم أنه لا خيار لديهم للرفض أو القبول، وهم الذين عانوا أشد المعاناة من فقدهم لصغارهم تحت شعار "سياسة الاستيعاب"، حتى ينشأ الصغير صاحب الوطن الأصيل ضمن عائلة بيضاء تزعم أنها صاحبة الحضارة والمدنية والحق في العيش الكريم. ونحن هنا على ضفاف المحيط العربي الكبير ننتظر من أوروبا وأميركا اعتذاراً فعلياً عن أشياء لم ينسها التاريخ، وإن كنا نتناساها مع سبق الإصرار والحماقة. فخريطة العالم العربي، التي خطها أوروبي أبيض وفق تقسيمات بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ما زالت تعاني حروباً دموية، لأن التوزيع لم يكن عادلاً. وأفريقيا تتصدر المعاناة حين تاجرت أوروبا المتحضرة بشعوب القارة وباعتها بأبخس الأثمان لتقوم بعدها مدن كاملة على أموال هذه التجارة اللاإنسانية والموغلة في الوحشية والعنصرية. ونطالبهم باعتذار رسمي جماهيري عالمي عن وعد بلفور حين منح من لا يملك الى من لا يستحق، أرضاً عربية مقدسة، وها هم اليهود يتاجرون بحكايات وهمية لارتداء ثوب الضحية واقتناص مزيد من الولاءات الباهتة المسكونة بالأكاذيب والمخاوف من الطرف الآخر. فمساجد فلسطين التاريخية وآثارها عرضة لتدمير متعمد لطمس هوية هذا المكان الممهور بالتاريخ وعبقه. وماذا عن قنابلهم وجنونهم الذي أسفر عن حربين لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل، لكن كنا من دفع ضريبة حروب لم تعنه في يوم ما؟ مَنْ إذاً صاحب الحضارة الفعلية والمدنية الفعلية، إنْ كان مجتمعهم المدني قائما على أنقاض الخطيئة وباحثا عن التحرر من هذه التبعات الصعبة والتي تعنى بالإنسان أولاً وآخراً؟ هم مدينون بالاعتذار لنا فالتاريخ الذي يقارعون فيه ويطالبوننا بشطب انتصاراتنا وتاريخنا المضيء الذي أضاء مستقبلهم. تاريخ أسود قاتم يفضح ما كانوا عليه ويطالبهم بكشف الحقيقة وبإرجاع الحقوق لأهلها. فرغم الاعتذار الرسمي الأسترالي، فإنه ما زال اعتذاراً منقوصاً، فكيف تعوض أم عن فقدها لصغيرها فقط لأن الأبيض شد ذلك، وكيف ينسى شعب سُرقت أرضه جهاراً نهاراً وممتلكاته وهويته ولغته وحتى شكله الذي يحسب الأوروبي أنه الأجمل والأنقى دماً. كيف قاس الرجل الأبيض نجاحه؟ وكيف استطاع أن يصدق أن المدنية تعني الحضارة، فنسبية الكلمات والمعاني لها تفسيرها لدى الآخرين الذين قد يناهضون ما يفكر فيه غيرك. وقد لا يحتاج البعض أن يحيا وفق قانون المدنية الحديث، لأن حياته البسيطة الخالية من تعقيدات التحضر تكفيه شر العناء والهم والقلق من غدٍ مكدس بالأعباء. ما أطول قائمة الاعتذارات التي ننتظرها نحن على هذه الضفة، والتي قد لا تضيف شيئاً سوى اعتراف بمعاناة شعوب أرَّقها الظلم وهدّدتها كثرة المظالم والتجاهل والتهميش، وسرقة جغرافيا وتاريخ، وفي الطريق هوية وكرامة وليل خال من قمره.