أصدر المعهد الأميركي للسلام خلال الشهر الجاري تقريراً بعنوان "التفاوض من أجل السلام العربي/ الإسرائيلي: القيادة الأميركية في الشرق الأوسط"، وهو عبارة عن دراسة أجراها فريق من الباحثين ركزوا فيها على الجهود الأميركية لصناعة السلام في المنطقة على امتداد الأربعة عقود الماضية. وبقيادة "دانيال كورتزر" (السفير الأميركي السابق لدى مصر وإسرائيل) التقى الفريق بين 2006 و2007 مئة مسؤول وخبير في أكثر من سبع دول وثلاث منظمات دولية. ويقيِّم التقرير بطريقة مختصرة ودقيقة النجاحات والإخفاقات التي ميزت أداء الإدارات الأميركية الثلاث السابقة، بالإضافة إلى رصد نقاط القوة والضعف في عملية صناعة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتنتهي الدراسة بالإشارة إلى عشرة دروس مستخلصة، وبتقديم توصيات لإرشاد الإدارات الأميركية القادمة. يبدأ التقرير تقييمه لجهود السلام الأميركية بنبرة إيجابية يخص بها على وجه التحديد الرئيس بوش الأب لتمتع إدارته بما سماه التقرير "رؤية استراتيجية واضحة" اتبعتها "بطريقة منضبطة وفعالة". فقد أشاد التقرير بالرئيس بوش الأب ووزير خارجيته "جيمس بيكر" لاستفادتهما من الفرصة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، وتشكل واقع جديد بعد حرب الخليج الأولى لإحياء الوساطة الأميركية في الشرق الأوسط من خلال عقد "مؤتمر مدريد" للسلام. لكن نقطة الضعف الأساسية التي وسمت أداء إدارة الرئيس بوش الأب هي ما يعتبره التقرير "فشله في بناء تحالف داخلي يدعم استراتيجيته للسلام". ومع ذلك يؤكد التقرير أن إدارة الرئيس كلينتون "ورثت بيئة استراتيجية مثالية لصنع السلام"، مشيراً إلى نجاح كلينتون في بناء قاعدة دعم شعبية واسعة، على رغم أنه كان "أقل انضباطاً وأضعف استراتيجية من سابقه". وفيما يتعلق بإدارة كلينتون أشار التقرير خصوصاً إلى "انعدام التوازن في المفاوضات الإسرائيلية/ الفلسطينية" الذي لم يستطع كلينتون معالجته. ففي الوقت الذي اهتمت فيه الولايات المتحدة بمسألة أمن إسرائيل لم تركز إلا قليلاً على معالجة الضعف السياسي الفلسطيني. وكانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي يُطلب فيها من شعب يرزح تحت الاحتلال أن يفاوض من أجل الانعتاق، وفي نفس الوقت إقامة دولة ديمقراطية ومستقلة. ونوَّه التقرير إلى أن إدارة كلينتون لم تنخرط في مفاوضات السلام إلا في وقت متأخر من فترته الثانية، ولم يطرح خطته للسلام سوى في الشهر الأخير من رئاسته. لكن إدارة الرئيس بوش الحالية هي من يفرد لها التقرير أشد الانتقادات وأكثرها حدة، حيث لاحظ أن مقاربتها للسلام "افتقدت الالتزام والرؤية الاستراتيجية". ويَرجع ذلك، حسب التقرير، إلى مساعدي الرئيس بوش الذين أقصوا الشرق الأوسط من اهتماماتهم، مستعيضين عنه بمحاولات "تغيير الأنظمة" ونشر الديمقراطية. وعندما انخرط الرئيس بوش في عملية السلام اقتصر ذلك على المستوى الخطابي دون متابعة حقيقية للموضوع. فقد تم إرسال الوسطاء والمبعوثين إلى المنطقة، لكن ذلك كان بدون جدوى إلى درجة أن اعتقاداً ساد بين المراقبين بأن إدارة الرئيس بوش غير جادة في مساعيها. ولم يقتصر تأثير سوء إدارة الرؤساء الأميركيين لعملية السلام، أو تجاهلهم لها أحياناً على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بل امتد أيضاً إلى دبلوماسية أميركا في المنطقة وعلى صورتها لدى شعوب الشرق الأوسط. وبعد هذا التقييم النقدي لجهود السلام الأميركية يعدد التقرير بعض الدروس التي يتعين على الإدارات المقبلة الاهتمام بها نذكر منها ثلاثة: أولها أن حل الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي يصب في مصلحة أميركا أولاً، لاسيما بعد هجمات 11 سبتمبر والحرب في العراق وانتشار مظاهر عدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما يحتم ممارسة أميركا لدورها القيادي. ثاني الدروس المستخلصة هو التشديد على صياغة السياسة الأميركية في واشنطن، وليس في مكان آخر. فإذا كانت المشاورات الأميركية مع أطراف أجنبية ضرورية، فإن صياغة السياسة الأميركية يجب أن تبقى حكراً على واشنطن. أما الدرس الثالث فيتمثل في تجاوز المقاربة التدريجية لعملية السلام والانتقال إلى الحلول النهائية، بحيث لن يبقى الدور القيادي الأميركي مقتصراً على تسهيل عملية التفاوض بين الطرفين، بل ينتقل إلى حل القضايا الحاسمة والالتزام بتوسيع الآلة الدبلوماسية لتشمل أطرافاً دولية وإقليمية.