أعقبت اغتيال عماد مغنية قبل أيام في دمشق موجة من التأبين ومجالس العزاء امتدت من لبنان حتى إيران مروراً بالبحرين والكويت، وقد تكررت عبارات المديح والثناء في "البطل المغوار الذي لا يشق له غبار" في كل مجالس التأبين تلك، وخطت الأقلام بعبارات شبيهة في كل الديار ما عدا في الكويت التي لم يكن مجلس تأبينها لمغنية كباقي المجالس، وذلك نتيجة لهامشها الديمقراطي الواسع نسبياً من جهة، ونتيجة لعلاقة القتيل مغنية بالكويت تحديداً. يُجمع الشارع الكويتي على أن مغنية مسؤول عن عمل إرهابي كبير هو قيادته لعملية اختطاف طائرة "الجابرية" عام 1986، وتحويل مسارها من بانكوك إلى مشهد، ثم إلى قبرص -حيث قتل اثنين من ركابها- فالجزائر حيث انتهت العملية الإرهابية بصفقة أطلقت سراح مغنية وصحبه، مقابل إطلاق سراح باقي الركاب. إجماع الشارع أثبته بيان حكومي تأخر أسبوعاً أكد تورط مغنية في تلك العملية. لكن "سبق السيف العذل" و"وقع الفاس في الراس" في الشارع السياسي الكويتي الذي شهد احتقاناً طائفياً نادراً. ذلك أن التأبين الكويتي قاده وشارك فيه نائبان برلمانيان كويتيان. فهاج القوم وماجوا، وتطايرت التهديدات، وسُطِّرت المقالات، وضاقت المنتديات بحروب التخوين ولغة المزايدات الوطنية. ووصلت المطالبات حد نزع العضوية عن النائبين وسحب جنسيتهما الكويتية على اعتبار أن ما قاما به هو خيانة وطنية. الضغوط الشعبية دفعت كتلة العمل الشعبي -المعارضة الأقوى في مجلس الأمة- إلى طرد النائبين اللذين ينتميان إليها. ورفع وزير الداخلية الكويتي وعدد من المواطنين قضايا ضد النائبين في المحاكم الكويتية يمكن أن تقود إلى رفع الحصانة البرلمانية عنهما ومن ثم محاكمتهما، في مسلسل تتصاعد وتيرته. ويبدو أن ما شهدته الساحة الكويتية ما هو إلا البداية لهذا المسلسل المحزن، حيث وصلت أصداؤه إلى بيروت بتهديد تلقته السفارة الكويتية -القريبة من الضاحية الجنوبية- بقصفها بالصواريخ نصرة للنائبين المناصرين لقتيل "حزب الله". وقد أحزنني تطور الأوضاع وأقلقني كمواطن كويتي، لكنَّ ما يجري قدم للعقلاء فرصة ثمينة لمراجعة مفهوم الولاء للدولة، واختبار مدى جدية شعور المواطَنة مقابل الأيديولوجيا الدينية والقومية الأوسع والأبعد أهدافاً، مقابل المصلحة الوطنية أو الأهداف المحددة بالإقليم، كما أثار مسألة إيمان المواطن بالدولة الحديثة وباللجوء إلى القانون، بدلاً من أن يلجأ إلى "أخذ حقه بيده" كما كانت تُحسم المسائل في الماضي. لا تزال العلاقة هشة بين الإنسان العربي خصوصا -والشرقي عموماً- وبين الدولة التي يفترض أن تحكمها القوانين، ويتساوى المواطنون أمامها دون تفرقة. ولعل مسألة التأبين لمغنية في الكويت تثير تساؤلاً -طرحته في مقالة الأسبوع الماضي- ويطرح على الساحة الكويتية هذه الأيام بشدة: هل قتل إسرائيل لأي من مجرمي العرب والمسلمين يحوله بشكل تلقائي إلى "شهيد"؟ وطرح التأبين الكويتي مسألة الولاء والوطنية لمن أبَّنوا مغنية على أساس ارتباط مغنية بـ"حزب الله" المرتبط -عضوياً ومالياً وأيديولوجياً بإيران- وبالتالي ارتباط المُؤبِّنين بإيران. الملاحظ أن مسألة "التخوين" العارمة في الكويت هذه الأيام، تشارك فيها جماعات مارست التبعية الفكرية والتطرف السُّني-اللادني (إن جازت التسمية) المعادي للكويت وللجميع، وهؤلاء لا يقلون كفراً بالدولة المدنية عن "حزب الله" اللبناني وأتباعه الذين أقاموا دولة داخل الدولة في لبنان. غالبية ساحقة في الكويت يراهنون على تماسك الجبهة الكويتية التي رصت صفوف وحدتها بالدم من كل الطوائف، وزخرفتها بدستور وبقانون مكتوب، وزينتها بقضاء لا زال يحظى بالاحترام ويوصف بالنزاهة، وبقيادة مارست الحياد بين الجميع، لكن أقلية عاقلة تحذر بتكرار: "عظيم النار، من مستصغر الشرر".