في خضم الضجة التي أثارها إعلان استقلال كوسوفو، توقف القليل من المراقبين للتمعن في وثيقة الاستقلال ذاتها. فالوثيقة محاطة بالشروط من كل جانب وتحفها الواجبات والتحفظات، كما أنها مليئة بالتزامات التشاور والإصغاء إلى رعاة الإقليم الدوليين، ليتحول الإعلان بهذا المعنى إلى وثيقة تكرس التبعية أيضاً. وما علينا للتأكد من ذلك سوى النظر إلى الفقرة الأخيرة من وثيقة الاستقلال التي تقول: "نؤكد هنا بوضوح وعلى نحو لا رجعة فيه بأن كوسوفو ملزمة قانونياً بالأحكام التي نص عليها إعلان الاستقلال، لاسيما التزامها بخطة أتيساري (المبعوث الأممي إلى الإقليم)". واللافت أن تسمع صوت المستشارين الغربيين وهم يملون مقتضيات الاستقلال المشروط وراء ظهر الشعب الكوسوفي. وبالطبع ستكون الحقيقة على أرض الواقع مختلفة عما هي عليه على الورق، لأن ألبان كوسوفو خطوا فعلاً خطوة عملاقة تجاه الحكم الذاتي؛ وكان ذلك واضحاً في الاحتفالات التي عمت شوارع بريشتينا يوم الأحد الماضي. لكني من جهة أخرى لا أريد أن أكون مكان صرب كوسوفو الذين سيعيشون إلى جنوب نهر "إيبار" مستقبلاً، ذلك أن قصة الصرب في شمال جسر ميتروفيتشا مختلفة تماماً. فبرغم إقدام حلف شمال الأطلسي (الناتو) على إغلاق الحدود بين المنطقة وصربيا، فإن الحياة اليومية للصرب في كوسوفو واندماجهم الاجتماعي سيستمران لفترة طويلة مع صربيا. بل إن كوسوفو لم تنل الاستقلال إلا لتنقسم مجدداً على نفسها، بحيث يمكن لكوسوفو بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إلى جانب صربيا، أن تتطلع إلى وضع شبيه ببلجيكا، وهو البلد الموحد رسمياً، والمقسم على أرض الواقع، مع ضمانه السلم والحرية لكافة مواطنيه في إطار شامل من العيش المشترك. واللافت حقاً أن السياق الأوروبي الحالي يجعل من استقلال كوسوفو قصة فريدة من نوعها تختلف عن باقي المناطق في العالم. فالملاحظ أن الاتحاد الأوروبي ينتقل بسلاسة ويسر من نموذج الإمبراطورية إلى نموذج آخر قائم على التوسع. وفي هذا السياق تنتقل كوسوفو من وضع الإقليم الواقع تحت الحماية إلى عضو في الاتحاد الأوروبي دون أن تمر بمرحلة الدولة المستقلة تماماً، أو أن تتمتع بالسيادة الكاملة. ويبدو أن ألبان كوسوفو قبلوا بالثمن، ذلك أنهم إذا تراجعوا عن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي فسيجدون أمامهم آلاف المسؤولين الأوروبيين مستعدين لإعادتهم إلى جادة الطريق. لكن مع ذلك يبقى إعلان استقلال كوسوفو بصيغته الحالية التي تحافظ في الحقيقة على تبعية الإقليم للاتحاد الأوروبي أقل الحلول سوءا بالنسبة للمنطقة. أما الذين يحتجون بأن استقلال كوسوفو سيجلب عدم الاستقرار لمنطقة البلقان، فإنهم غالباً ما يتجاهلون أن الوضع المعلق الذي عاشته كوسوفو منذ عام 1999 كان وضعاً غير مستقر وغير قابل للاستمرار. ولا أحد يملك قدراً قليلاً من العقل يمكن أن يستثمر ماله في منطقة هشة سياسياً تتخللها الاحتجاجات العنيفة، وتصل فيها نسبة البطالة الى 40%. وفي النهاية يعتبر استقلال كوسوفو أفضل الحلول أيضاً بالنسبة لصربيا. فرغم أنه من الصعب بتر ذراع مريضة، فإنه أحياناً يكون الطريق الوحيد للشفاء وإنقاذ باقي الجسم. وفي أعماقهم يدرك الصرب هذه الحقيقية، كما أن الصرب، وليس الألبان، هم من أطلق نكتة تقول إن الصرب مستعدون للقيام بأي شيء من أجل كوسوفو ماعدا العيش فيها. وبالطبع تعرف صربيا حالة من الغضب والاستياء، لكن سيكون عليها الاختيار بين إهدار عقود من الزمن في التعبير عن الاستياء وعدم الرضا، أو سلوك الطريق الأوروبي لإعادة البناء الوطني. ومع أن الأمر قد يستغرق سنوات قبل أن تتمكن كوسوفو من الحصول على مقعد في الأمم المتحدة بسبب امتناع روسيا عن الاعتراف بها وتعطيل انضمامها باستخدام حق "الفيتو"، إلا أن ألبان كوسوفو يدركون أن سويسرا نفسها التي تفتخر باستقلالها وتفردها لم تصبح عضواً في الأمم المتحدة إلا في عام 2002. فما يهم اليوم هو الحقائق على أرض الواقع واعتراف الدول الأخرى الذي فاق لحد الآن عشرين دولة، بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا. لكن هل يمكن التعامل مع استقلال كوسوفو على أنه سابقة تثير من الخوف والأمل ما تثيره؟ بالطبع هي سابقة، إذ في هذه اللحظة بالذات يتحدث قادة أوسيتا الجنوبية و"ترانس-دنيستر"، المدعومين من قبل روسيا، عن اتباع نموذج كوسوفو. كما أن الانفصاليين في إقليمي الباسك وكاتالونيا بإسبانبا يتابعون باهتمام ما يجري في كوسوفو، لذا سارعت أسبانيا إلى رفض استقلال الإقليم بوضوح وحدة. وقد أصبحت كوسوفو الخبر الرئيسي في الموقع الإلكتروني "لمنظمة الشعوب والأمم غير الممثلة" التي تضم 69 عضواً يتوزعون بين أبخازيا وزنجبار. ومع أن وثيقة الاستقلال تشير إلى أن كوسوفو "حالة خاصة"، مشددة على أن استقلال الإقليم ليس سابقة، فإن أعضاء منظمة الشعوب والأمم غير الممثلة يعتبرون أنفسهم حالات خاصة أيضاً. والواقع أنه رغم إقرارنا بنجاعة حل استقلال كوسوفو بصيغته التي تكرس التبعية باعتباره المخرج الأمثل لأزمة البلقان، إلا أنه لا يمكن الاستمرار في القول إنها ليست سابقة. فالمقولتان صحيحتان: كوسوفو حالة خاصة وسابقة في نفس الوقت، لأن نماذج أخرى من كوسوفو ستعرف النور مستقبلاً. ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست