يدرس كتاب "السياسات الدستورية للاتحاد الأوروبي"، الجهود التشريعية المبذولة في صياغة الميثاق الدستوري للاتحاد الأوروبي، إلا أنه ينظر إلى هذه الجهود راصداً أدوار مختلف اللاعبين السياسيين، من أعضاء الاتحاد وقادته ومجتمعاته، في إطار معاهدة الاتحاد الأوروبي. ويتضمن ذلك الرصد تحليل مشاركة المجتمعات المدنية، إلى جانب تقصي مسارات تطور مسودة نص الدستور الأوروبي في سياق النظام القانوني والتشريعي العام للاتحاد. وإذا كان جهد مؤلفي هذا الكتاب قد انصب بالدرجة الأولى على تحليل وفهم التجربة التشريعية الأوروبية في هذا المجال، فإنهم لم يغفلوا في الوقت نفسه التصدي للإجابة عن الأسئلة التي تثيرها الطبيعة التعددية القومية للاتحاد، وما إذا كانت هذه الطبيعة تمثل تطوراً جديداً بحد ذاتها، لا ريب في تأثيراته المرتقبة على صياغة الدستور وتشريعه! وبهذه الصفة يجمع الكتاب ما بين التشريع والسياسة، طالما أنه في نهاية الأمر -وكما يشير العنوان- دراسة في السياسات الدستورية للاتحاد الأوروبي، لاسيما دراسة تأثير معاهدة الاتحاد على عملية تشريع الدستور الأوروبي. والذي يُعرف عن هذه العلاقة حتى الآن، أن معاهدة الاتحاد الأوروبي أخفقت عملياً في أن تتطور إلى صيغة دستور أوروبي، أي أنها ظلت بلا دستور. والسبب هو الخلافات السياسية المحيطة بتحديد طبيعة وهوية الاتحاد الأوروبي نفسه. وكانت مسودة الدستور المقترحة قد جرى التصويت ضدها في الاستفتاءات الشعبية العامة التي أجريت حولها في كل من فرنسا وهولندا عام 2005، بينما تمسكت بريطانيا بموقفها التقليدي المتحفظ إزاء صيغة الاتحاد الأوروبي في مجملها، وبقيت أقل دول أوروبا أوروبية كما يقال. والدليل أنها لا تزال خارج منظومة اليورو، وفي منأى عن الكثير من الترتيبات والبروتوكولات الأوروبية المنظمة لتحركات الأفراد والاستثمارات. أما القاسم المشترك لهذه الخلافات السياسية حول الدستور الأوروبي، فيتمثل في تمسك عدد من الدول الأوروبية بسيادتها الوطنية في وجه الصيغة الفيدرالية المفترضة ضمناً للاتحاد، وهي الصيغة التي تطالبها بالتخلي عن جزء كبير من تلك السيادة لصالح المفوضية العامة للاتحاد في بروكسيل. وذلك هو سبب تصويت الناخبين الهولنديين والفرنسيين ضد مسودة الدستور، إلى جانب المخاوف الكبيرة من أن تهدد هذه الصيغة الفيدرالية اقتصادات المجتمعات الوطنية، بفعل تدفق الأيدي العاملة المهاجرة، وكذلك بفعل تدفق السلع والمنتجات دونما اعتبار لحماية المصالح الاقتصادية الوطنية، ولا القيم الخاصة بالشعوب الأصلية. ومما يزيد هذه المخاوف بصفة خاصة، توسع الاتحاد الأوروبي حتى بلغت عضويته 27 دولة حالياً، مع انفتاحه لمزيد من التوسع في مختلف أنحاء القارة، بل خارجها لدولة مثل تركيا بكثافتها السكانية المسلمة الكبيرة. هذا بعض ما تطرّق إليه الكتاب في فصوله التي تناولت مساهمة المجتمع المدني، ودور المصالح الاقتصادية في صياغة الدستور، والحوار العام حول القيم الأوروبية، والانتقال من المعاهدة إلى الاستفتاءات الشعبية وما بعدها. إلا أن القسم الأكبر من الكتاب، كرّس لدراسة الجوانب التشريعية وتحليل الفجوة القائمة ما بين المعاهدة والدستور الأوروبيين. ومن هذه الفصول: لحظة دستورية أم عملية دستورية؟ تجربة المعاهدة الأوروبية، المعاهدة بوصفها مرآة للمجتمعات الأوروبية، المعاهدة و"القوانين الحية" للاتحاد الأوروبي... على أن القضية الرئيسية التي يثيرها هذا الجانب الفقهي التشريعي من الكتاب هي كالآتي: إذا كانت المعاهدة الأوروبية قد أخفقت في إنتاج صيغة لدستور أوروبي، فهل من مأخذ على هذا الإخفاق؟ وتشكل إجابة هذا السؤال جانباً حيوياً من الكتاب، لأنه سعى إلى عدم إضفاء أهمية كبيرة على هذا الأمر، أو بالأحرى التشكيك في تلك الأهمية خلافاً لما يعتقده الكثيرون. والواقع أن مؤلفي الكتاب أولوا أهمية أكبر للمعاهدة الأوروبية وليس الدستور الأوروبي، لأنهم اتخذوا من المعاهدة نفسها لحظةً بالغة الأهمية في تلك العملية التشريعية المفتوحة، الهادفة إلى بلوغ الدستور في لحظة أخرى من لحظات تطور التشريعات الأوروبية. ومما يعطي المعاهدة كل هذا الثقل القانوني السياسي من وجهة نظر مؤلفي الكتاب، كونها لا تزال الأساس الذي يدور حوله كل هذا الجدل السياسي التشريعي العام، والذي يقدّر له أن يقرر مستقبل الاتحاد الأوروبي لاحقاً على أساسها. وسواء في الجانب السياسي أم القانوني، هناك من سعى إلى بلورة صيغة تشريعية لدول الاتحاد الأوروبي، اعتماداً على استدعاء تجربة الولايات المتحدة الأميركية أو نموذجها الاتحادي الفيدرالي. واشتط البعض في اتجاههم هذا إلى إطلاق تسمية "الولايات المتحدة الأوروبية" على الاتحاد. غير أن هذه المقارنة ليست في محلها، لا سياسياً ولا تاريخياً. فالعلاقة بين دول الاتحاد الأوروبي لا يمكن خفضها إلى مستوى الولايات الأميركية، المنتمية إلى دولة واحدة وكيان سياسي جغرافي واحد يمثل الجزء الشمالي من القارة الأميركية. وخلافاً لهذه الوحدة السياسية لأجزاء الدولة الواحدة، تتألف عضوية الاتحاد الأوروبي من دول شتى تشترك في كونها دولاً ذات سيادة وطنية وتتمتع باستقلال تام عن بعضها بعضاً. وهذه إحدى العقبات الرئيسية التي تقف أمام التوصل إلى صيغة دستورية واحدة تحكم الاتحاد، بحيث يكون أشبه بالحكومة الفيدرالية الممثلة لهذه الدول، على صعيد السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية والاقتصادية. وهذا ما تصدت له هولندا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول الأخرى، بالدفاع عن سيادتها الوطنية. عبد الجبار عبدالله ـــــــــــــــــ الكتاب: السياسات الدستورية للاتحاد الأوروبي تأليف: كريس لونجمان وآخرون الناشر: دار بالجريف ماكميلان للطباعة والنشر تاريخ النشر: فبراير 2008