عندما وقع اختيار "بوريس يلتسين"، رئيس روسيا السابق، على "فلاديمير بوتين" كي يخلفه في منصبه، كان الرجل مجهولاً لدى معظم الناس تقريباً. وحتى القلة التي كانت سمعت به لم تكن تعرف عنه أكثر من كونه ضابطاً متوسطاً في جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق (كي. جي. بي)، يتميز بالصرامة والانضباط، ويتمتع بسجل حسن في الخدمة. وكان اللافت للنظر أن الرئيس الجديد لم يأبه كثيراً بتوضيح صورته، بل ترك الجميع يخمنون كما يريدون. "إدوارد لوكاس" مؤلف كتاب: "الحرب الباردة الجديدة: كيف يهدد الكريملن كلاً من روسيا والغرب؟"، الذي نعرضه هنا، كان مراسلاً لمجلة "الإيكونوميست" اللندنية عندما صعد بوتين إلى سدة الحكم. وقد أثبت الرجل قدرته الفذة على التنبؤ، عندما كتب في تلك الفترة المبكرة يقول إن على الغرب أن يتوقع الأسوأ من الرئيس الروسي الجديد! وما تكشف من شخصية بوتين، منذ تولى الحكم حتى الآن، يعطي لوكاس الحق في ادعاء أن الأحداث أثبتت صدق توقعاته بشأن الرجل. فلوكاس يصر على أن الغرب لا يزال حتى الآن يهون من خطورة بوتين، رغم سياساته وتصريحاته المتكررة، والتي تدفع البعض لاعتبارها جزءاً من حرب باردة جديدة. ويرى "لوكاس" الذي غطى تطورات وأحداث بلدان شرق ووسط أوروبا على مدى عشرين عاماً، أن بوتين استولى على السلطة في روسيا في غفلة من الزمن، ثم عمل بعد ذلك على تكريسها من خلال سحق كافة أنواع المعارضة، وأنه أحيا من العدم إيديولوجيات قومية مسمومة، وعمل على إحاطة نفسه بقناع من الاحترام الزائف، والذي يخفي وراءه أنواع الفساد واستغلال السلطة. كما يرى أن دول وسط أوروبا ودول البلطيق التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، ستكون على خط المواجهة المباشرة في أي حرب باردة جديدة قد تندلع بين روسيا والغرب، خاصة أن الكريملن يمارس ضدها أنواع الضغط والتهديد، ويشن عليها حرباً إلكترونية، ولا يتورع عن تشويه تاريخها، ويمارس عليها ضغوطا عنيفة في مجال الطاقة، ليجبرها على قطع كافة الروابط مع دول أوروبا الغربية. ويحذر المؤلف من توظيف روسيا لسلاح الغاز في الضغط على دول أوروبا الغربية، ويورد في هذا الإطار تفاصيل كافة الصفقات التجارية العلنية والسرية، وعمليات لي الذراع التي مارستها شركة "جازبروم" الروسية التي تعد من كبريات الشركات المحتكرة لإنتاج وتوزيع وتصدير الغاز الطبيعي في العالم، مع دول أوروبا الغربية، وذلك من أجل إجبارها على الاعتماد التام على روسيا في توفير احتياجاتها الهائلة من الغاز وفقاً للشروط الروسية. يعلق لوكاس على هذه النقطة بقوله: "نحن نواجه أناساً يريدون إلحاق الأذى بنا، وإصابتنا بالإحباط، وأقوى سلاح لديهم -والذي يمثل نقطة ضعف لنا في ذات الوقت- ينحصر في النفط والمال... ومثلما كانت القوة النيرانية الرهيبة للاتحاد السوفييتي السابق تشكل مصدر قلق كبير لنا إبان الحرب الباردة، فإننا يجب أن نخشى حالياً تلك الأموال الطائلة التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات المكدسة في الخزائن الروسية، والتي يمكن لبوتين أن يستخدمها ضدنا مستفيداً في ذلك من تهافتنا وانخفاض معنوياتنا". ويوضح المؤلف أن المشكلة التي يواجهها صناع السياسة في الغرب في التعامل مع روسيا منذ العصر الفيكتوري وحتى الآن، تتمثل في أنها دولة شديدة القوة وشديدة الضعف في آن واحد. وهو يرى أن قوة بوتين ليست سوى مجرد وهم يقوم على أسعار النفط المرتفعة، وأوهام العظمة العسكرية، وأن تلك الأسعار وتلك الأوهام، تخفي وراءها الكثير من مظاهر الضعف الشديد في روسيا، بما في ذلك النظام الصحي الفاشل، والانكماش المتواصل في عدد السكان الروس الذين يتقلصون بنسبة 1% سنوياً، علاوة على انتشار إدمان الكحول، والذي وصل مستويات وبائية، وتقلص حجم القوات المسلحة الروسية التي غدت هي الأخرى على وشك الانهيار. وفي معرض المقارنة مع أميركا، يقول المؤلف إنه رغم الصعود الروسي، فإن مجموع ما تنفقه موسكو على قواتها المسلحة لا يتجاوز 4% مما تنفقه الولايات المتحدة، كما أن اقتصادها لا يقارن بالاقتصاد الأميركي بأي حال من الأحوال، إذ لا يزيد عن حجم الاقتصاد الهولندي والبلجيكي معاً، أما النخبة الروسية فتعاني من الازدواجية، وهو ما يتبين من حقيقة أن المسؤولين الروس الذين شنوا هجوماً ساحقاً على السياسات البريطانية، في معرض تبريرهم لإغلاق مقار المركز الثقافي البريطاني في بلادهم، يعتبرون من أكثر الناس في روسيا حرصاً على إرسال أبنائهم إلى المدارس البريطانية المعروفة، سواء في روسيا أو في بريطانيا ذاتها. وليس هناك من دليل على هذه الازدواجية في نظر المؤلف، أكثر من أن روسيا قد طلبت ضمن المفاوضات التي أجرتها مع بريطانيا لإنهاء أزمة إغلاق المركز الثقافي البريطاني في روسيا، أن تتعهد لندن بزيادة عدد التأشيرات السنوية الممنوحة للروس لزيارتها. يورد المؤلف مقولة جنرال بريطاني في القرن التاسع عشر يصف بها الحالة الروسية، وهي أن "روسيا تعرف جيداً بأنها ضعيفة من الناحية السياسية والاقتصادية مقارنة بالغرب، لكنها تشعر بالسعادة والغبطة عندما يصفها الآخرون بأنها قوية". ويخلص المؤلف في نهاية الكتاب إلى أن ما يشهده العالم الآن من سياسات روسية تنحو نحو العدائية، لا يؤشر على بدء حرب باردة جديدة، كما يعتقد كثيرون، فاحتمال اندلاع هذه الحرب لا يزال بعيداً. سعيد كامل ـــــــــــــــــــــ الكتاب: الحرب الباردة الجديدة: كيف يهدد الكريملن كلاً من روسيا والغرب؟ المؤلف: إدوارد لوكاس الناشر: بلومزبيري بابليشنج تاريخ النشر: 2008