فلسطين اليوم، مشهد مأساوي ينذر بمزيد من المعاناة والموت. شعب متميز بكل معايير المقاومة والصمود يعيش في مستنقع من الرمال المتحركة لا يعلم إلى أي قاع أرضي سيصل. فكل يوم تشرق فيه الشمس نرى، من الجانب الإسرائيلي، استفحال القتل والعدوان والظلم والقهر، فيما قادة الشعب الحالي (أساساً "فتح" و"حماس") يتفرجون عجزاً بسبب ميزان القوى المكسور، والاتفاقات المجحفة، والانقسام الداخلي المذهل... مبررين عجزهم بصيغة تهديد "مزلزل" أو مقال أو تصريح أو خطبة، لكن أياديهم مقيدة وأعناقهم مغلولة وأناملهم لا تحس بقيمة الدم المسفوح. والحال كذلك، تراهم غير قادرين على الخروج من المأزق، فتذهب كلماتهم أدراج الرياح ويستسلموا أمام صرخات النساء والأطفال، فيما يستغل المحتل الصهيوني "حرب" الإخوة ويعمل كل جهده (وهم "يساعدونه") من أجل عدم السماح للطرفين باللقاء نهاراً، وعلى القتل والتدمير ليلاً، حتى باتت حياة الفلسطيني (أساساً في ظل "فتح" و"حماس") تجسد الحلم المجهض والتطلع المقموع، وكأني بسياستهما تحقق لإسرائيل الكثير من مطامعها. فإسرائيل، منذ يونيو الماضي، تشعر بالرضا وهي ترى حلمها يتحقق بأيدي ضحيتها التي "قررت" بسلوكها هدم حلم تحرير فلسطين بعد أن "قررت" تحطيم ذاتها، الأمر الذي قدم للدولة العبرية حججاً وذرائع تتعلل بها في ممارسة دبلوماسية المراوغة والتسويف، مقتنصة في الوقت ذاته الفرص السياسية التي تعزز موقفها العدواني والاستيطاني‏.‏ إزاء هذا الواقع، نجزم بأن التفاؤل -حالياً- ليس وارداً، لا في النطاق الفلسطيني -الفلسطيني ولا في النطاق الفلسطيني -الإسرائيلي. فالسيناريو المشاهد على الشاشة مخيف يستهدف تصفية القضية الفلسطينية نهائياً بمشاركة فلسطينية... ولعل ما خفي كان أعظم. ففي ظل "التركيبة" الفلسطينية الداخلية من جهة، و"نضال" أطرافها للتداخل مع الأيادي الإقليمية والدولية (الظاهرة والخفية على حد سواء) من جهة أخرى، يبدو أن حالة الانفصال "المؤقت" والتباعد "القسري" بين الضفة الغربية وقطاع غزة ستستمر إلى ما لا نهاية أو إلى أن يتم القضاء على أحدهما أو -إن تشاءمناً أكثر- إلى أن يتم القضاء على عموم القضية الفلسطينية. وعندما ندرس واقع ما يحدث في فلسطين والعالم العربي عامة وخارجه، والمنظور السياسي الذي حاول البعض من هؤلاء أن يعالج به القضية (أو حتى قضية الانقسام)، نلاحظ أن جميع ما طرح أثبت فشله. معلوم أن هناك خلافات حادة بين حركتي "حماس" و"فتح" تتعلق بمصير الشعب الفلسطيني، حيث يرى كل طرف منهما أن تصوره للحل هو الأصح وهو الذي يحظى برضا وقبول الشعب الفلسطيني، ويرى كل طرف -بنهج إقصائي- أنه الأقدر على قيادة مسيرة الشعب الفلسطيني نحو نيل حقوقه الوطنية. لكن إذا كانت "فتح" على خطأ و"حماس" أيضاً على خطأ: أين يكون الحل؟! فمنذ "الحسم العسكري" أو "الانقلاب" في قطاع غزة، ومع تغييب دور المجلس التشريعي، أصدر الرئيس محمود عباس عدداً من المراسيم والقرارات التي تحظى بقوة القانون، فيما توالى صدور العشرات من قرارات التجميد والتعيين من قبل حكومة غزة. وهي جميعها قرارات ومراسيم ساهمت -موضوعياً- في تعميق حالة الانقسام وتكريس واقع الفصل بين الضفة وغزة، بغض النظر عن الجدل حول مدى شرعيتها أو قانونيتها. وبذلك لن تكون هناك وحدة وطنية أو حتى حوار في ظل إجراءات أحادية الجانب من هنا وهناك، فالأمر سيوسع رقعة الخلافات ويعمق حال الانقسام ويكرس الفصل. أو ليس هذا ما هو حاصل؟! ربما مل القارئ من تأكيدنا على أنه لن يكون هناك حوار فلسطيني -فلسطيني ناجع يبدأ طوعياً من كلا الفصيلين، "فتح" و"حماس"، بعدما شهد البيدر فيما بينهما ما شهد، لكن الأمر المؤكد والذي لا مناص منه هو أنه، لإنجاح الحوار ولضمان تفادي العزلة وتخطي الحصار السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، بات الفلسطينيون بحاجة إلى "مبادرة عربية" (أساساً أردنية مصرية سعودية سورية)، تنسق مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل (ولا ضير من التنسيق كذلك مع روسيا والصين)، الأمر الذي يجبر "فتح" و"حماس" على إعمال العقل والاتفاق كخطوة أولى نحو العودة إلى الرأي العام الفلسطيني عبر صناديق الاقتراع. ويمكن أن تركز المبادرة العربية هذه (وهي أولى من المبادرة العربية تجاه إسرائيل) على تشكيل "حكومة تكنوقراط" تحظى بقبول الحركتين وبدعم المجتمع الدولي، أو حكومة وحدة وطنية من جميع الفصائل (وجوب القدرة على الاحتفاظ بالدعم الدولي)، مع ترك أمر المفاوضات للرئاسة الفلسطينية. أما استمرار الوضع على ما هو عليه فإنه يضعف، ليس الموقف الفلسطيني فحسب‏، بل يضعف أي مسعى عربي لحل القضية الفلسطينية بالاتفاق مع الأطراف الدولية‏. وعندما تفجرت الخلافات بين الحركتين،‏ رأى المهتمون الحصفاء ضرورة حلها على أرضية الوحدة حفظاً للقضية‏‏ ولمصالح الشعب الفلسطيني، على قاعدة أن الوطن الفلسطيني لا يقبل القسمة الجغرافية بأي حال. فاستعادة الوحدة والتوصل إلى صيغة اتفاق شرط ضروري للتفاوض على أسس قوية، وهي الضامن الأول لعدم ضياع القضية؛ فلا سبيل لمواجهة غطرسة وتوسعية إسرائيل وحصارها ومراوغتها في المفاوضات، إلا بإنهاء الخلافات بين "فتح" و"حماس"‏. لكن قبل ذلك يجب، بشكل متوازن، تجنب الإشارة لمسألة فقدان حكومة "حماس" الشرعية بعد إقالتها من الرئيس عباس، أو الإشارة إلى عدم نيل "حكومة تصريف الأعمال" في رام الله ثقة المجلس التشريعي، ذلك أن هذين الأمرين يفقدانهما النصاب السياسي عند أطراف النزاع الإقليميين والدوليين، وعندها سيستمر الحصار السياسي والاقتصادي والدبلوماسي. كل ما سبق لا يمكن تحقيقه بمجرد التمنيات والنصائح، بل يعتمد في الأساس (ويا للفخار!) على إرادة إسرائيل في مفاوضات جادة وتسوية. وبالطبع، ثمة شك كبير في هذين الأمرين. ومعروف أن تعثر مشاريع الحلول السلمية لقضية الشرق الأوسط يعود إلى عاملين رئيسيين: الأول استمرار التعنت الإسرائيلي في الاستجابة لمبادرات ودعاوى السلام، والثاني تركيز بعض المشاريع السلمية الأخرى على حل تداعيات النزاع دون جوهره، مما أدى إلى تواصل حالة التوتر والصراع. ونحن نعلم أنه عندما وصلت مباحثات السلام إلى طريق مسدود واصطدمت بجدار منيع من التعنت الإسرائيلي، قام الفلسطينيون بانتفاضتهم الثانية التي واجهتها إسرائيل بعنف دموي كبير. ودائرة العنف الدموية القديمة -الجديدة ثبت أنها عديمة الجدوى. فالفلسطينيون لا يحققون شيئاً يذكر بواسطة الصواريخ التي تسقط على سديروت وعسقلان، لكن إسرائيل أيضاً لن تحقق نفعاً بعملياتها الواسعة النطاق في المناطق المحتلة، فالمزيد من القتل والتنكيل الإسرائيلي، يجلب المزيد من الصواريخ وغيرها إلى سديروت وعسقلان وديمونا، والمزيد من الصواريخ وخلافها يجر إلى مزيد من القتل... فتكون المحصلة الدائرة الدموية ذاتها التي ثبتت عبثيتها.