قبل عقد من الآن كنا ضمن وفد إعلامي مرافق لسمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في زيارة استطلاعية للأوضاع في إقليم "كوسوفو" الذي خرج الآن من مصنع القرن الحادي والعشرين إلى الوجود الفعلي رغم اعتراض المتعصبين الصرب ومن والاهم. في ذلك الوقت مثلنا دور شهود عيان على "كوسوفو" المخرَّمة من كل الجوانب، فمناظر البيوت والمؤسسات والفنادق والمحلات مليئة بالثقوب التي ترى الآخرين من ورائها على كثبان خضراء نزلت من السماء لكي تعبث بها يد التعصُّب المقيتة لتحيلها إلى لون آخر غير الاخضرار بمعنى الإعمار. أما الحدود بين القوميتين، فكانت متوترة على طول الخط بل مستفزة ببنادق القناصة المنتشرين في بقاع الخوف والريبة، فالصدام اللفظي أو اليدوي على مدار الساعة لا يعالجه إلا قوات حفظ السلام "كيفور". وقد مثلت الإمارات والأردن مفخرة فيها شهد عليها العالم في حينه ولا زال في الدور الإنساني للحفاظ على خطوط السلام ممتدة حتى تحقق حلم الدولة. فما أقصر ذلك العقد في عمر الزمن وقد مر عليه تاريخياً في أقل من لمح البصر، بل عنصر الزمن هنا بالنسبة لألبان كوسوفو يقارب عشرة عقود من بدء المطالبة بالاستقلال إلى هذه الساعة الحالمة، التي اعترفت بها أكثر من مئة دولة في العالم إلى الآن واعترضت سبع دول مُصرّة على رعاية بذور التعصب والتطرف القومي إلى حد النخاع، علماً بأن المؤشرات العالمية في تراجع بدرجة الانحدار عن تلك النزعات الفاشية والنازية وغيرها من المسميات التي تسمم الأفكار في العقول قبل الدماء في الأبدان المتعطشة لمزيد من قطع العروق الرافضة للمياه الجديدة بدل المتمسكة بالآسن العفن. فور الإعلان عن الاستقلال المجمع عليه في برلمان كوسوفو، سئل أحد رؤساء الأحزاب عن ضيق ذات اليد الاقتصادية في هذا الإقليم وكأن الأوضاع السابقة كانت في شدة الكرم والأريحية مع هذا الشعب المناضل، فأجاب: إن الحرية مقدمة على الاقتصاد لأننا قادرون على تدبير شؤوننا بعد أن نصبح دولة من دول العالم التي تناصر الديمقراطية والحرية في كل مكان. في الماضي القريب جداً كانت كوسوفو والبوسنة والهرسك وغيرها من الأقاليم التي انتزعت بإرادة الشعوب من جينة الاتحاد اليوغسلافي ذات الثروات الهائلة، ومع ذلك لم يركب السيارات الفارهة ولم يسكن القصور الفخمة إلا رؤساؤها ورئيس الحزب الأوحد الذي كان يتحكم في أرزاق الشعوب ومن يطالب بالمزيد، كان مصير عنقه في صقيع السجن الجليدي الأبدي لمن يهمس جهراً ولا نقول يرفع صوته عالياً إذا أراد لقمة زائدة دون أن يطالب بالعمل المضني الزائد عن وزن عشرات اللقم وإلا فإن المقصلة والمطرقة والسندان هي البديل المتاح. تتخوف روسيا على وجه الخصوص من فلتان هذه المطالب الاستقلالية لدى الآخرين ممن ترمق أعينهم اليوم خطوة "كوسوفو" نحو الحرية الحقيقية وإن كان التجويع هو السلاح الذي سيرفع مباشرة ضدها، ولقد فعل ذلك من قبل في البوسنة والهرسك عندما أغلقت قوى التعصب أبواب الموانئ البحرية عنها، إلا أن العالم الحر وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وهي كذلك في حالة "كوسوفو"، لم يقف مكتوف الأيدي أو فاقداً للوعي والإبصار. ذلك الوضع اليوم يعيد نفسه من أجل حريات الشعوب التي سلبت في دول ما كان يسمى بالاتحاد اليوغسلافي وقد توجت الجدران عشية إعلان استقلال "كوسوفو" الرسمي على الملأ بعبارات الشكر والتقدير والعرفان على الأعلام الأميركية التي نصبت بجانب علم "كوسوفو الحرة" مسطراً بعبارة (Thank You U.S.A).