هل يوجد فرق بين نواب "حزب العدالة والتنمية" التركي الذين استغلوا أغلبيتهم في البرلمان قبل أيام لتمرير قانون يسمح للطالبات بارتداء الحجاب في الجامعات، ونواب "الحزب الوطني" المصري الحاكم الذين انفردوا بتعديل الدستور في العام الماضي، ونواب جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية الذين يستغلون أدوات الرقابة البرلمانية في تهديد حرية الفكر والإبداع؟ الإجابة تختلف حسب اتجاه المجيب وموقعه السياسي –الأيديولوجي، ووفقاً للزاوية التي ينظر منها المراقب الذي يحاول أن يكون موضوعياً. وإذا بدأنا بمشهدي النواب الإسلاميين الأتراك والمصريين، فالأكيد أن هناك فرقاً لا يقتصر على أنهم أغلبية حاكمة في تركيا وأقلية محجوبة جماعتهم عن المشروعية القانونية في مصر. فثمة فجوة ملموسة، ولا يمكن أن يغفلها منصف، بين مستوى التطور الذي بلغته حركة الإسلام السياسي في كل من تركيا ومصر. غير أن الإقرار بهذه الفجوة وأهميتها من الناحية الموضوعية شيء، والمبالغة فيها وكأنها تفصل بين عالمين سياسيين وأيديولوجيين مختلفين تماماً شيء آخر. ولا يخفى أن هذه المبالغة التي راجت في العامين الأخيرين، تعبر عن نوع من الأمنيات التي تداعب تفكير وخيال كثير ممن لهم صلة بمراكز صنع القرار في واشنطن. وما هذه الأمنيات إلا نتيجة للمأزق التاريخي الذي يواجه السياسة الأميركية التي تورطت في التزام -لا قبل لها به– بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وبصفة خاصة في العالم العربي. ورغم تعدد جوانب هذا المأزق، يظل مصدره الأهم هو هشاشة الأحزاب والقوى السياسية التي يمكن أن تحمل مشروعاً جدياً وواعداً للتحول الديمقراطي، في ظل انقسام حاد بين نظم الحكم التي تمتلك القوة وحركات الإسلام السياسي التي تغلغلت في مساحات واسعة من المجتمع. وفي ظل هذا الوضع، لا يمكن التطلع إلى أي مشروع للتحول الديمقراطي إلا إذا كان لحركات الإسلام السياسي موقع فيه باعتبارها المعارضة الرئيسية الأكثر نفوذاً في الشارع. ومن هنا وجد العقل الأميركي -الغربي في التجربة التركية الراهنة ما يوفر له مخرجاً من هذا المأزق. واقتضى ذلك بطبيعة الحال مبالغة في تقدير التزام "حزب العدالة والتنمية" بالقيم والتقاليد الديمقراطية، حتى يتسنى اعتبار التجربة التركية نموذجاً للتحول الديمقراطي في البلاد العربية التي تنامى فيها نفوذ الإسلام السياسي إلى حد أنه أصبح الرقم الأهم بعد نظم الحكم مباشرة في تحديد معادلات التحول. وكانت هذه، ومازالت، مبالغة مزدوجة أو مركبة لا تخلو من تناقض بنائي. فالاعتقاد بأن "حزب العدالة والتنمية" قطع شوطاً عظيماً على طريق الالتزام بالقيم والتقاليد الديمقراطية، يعني بداهة أن تكرار التجربة التركية بشكل أو بآخر يقتضي انتظار حدوث تطور مماثل في موقف وأداء "الإخوان المسلمين" في مصر مثلاً أو الأردن. ويفيد ذلك أن استلهام النموذج التركي في مثل هذه البلاد يظل مؤجلاً، بافتراض أنه ممكن أصلاً، إلى أن يبلغ "الإخوان" المستوى نفسه من التطور الذي وصل إليه "حزب العدالة والتنمية"! وهكذا يصبح الأمر معلقاً على افتراضين يبدو أولهما بعيد المدى، إن لم يكن بعيد المنال بسبب الاختلاف التاريخي والموضوعي بين تركيا والبلاد العربية منذ سقوط الخلافة، فيما يبدو الثاني غير واقعي، إن لم يكن بعيداً تماماً عن الواقع. فالحال أن "العدالة والتنمية" لم يقطع سوى مسافة قصيرة على طريق التكيف مع مقومات النظام الديمقراطي، وإن كانت هذه المسافة تكفي لتمييزه عن حركات الإسلام السياسي في عدد من البلاد العربية. ويقدم سلوك هذا الحزب بشأن مسألة حجاب طالبات الجامعات دليلاً آخر على ذلك، من حيث افتقاده بعض أهم مقومات ومستلزمات الممارسة الديمقراطية، وتلك التي يصح أن تعتبر نموذجاً يُقتدى به بصفة خاصة. فهذا السلوك ينطوي -أولاً- على ما يمكن تسميته عنفاً تشريعياً لا يختلف في جوهره عن ذلك الذي مارسه "الحزب الوطني" الحاكم في مصر مثلاً عندما أصر على الانفراد بتعديل الدستور بالطريقة التي أرادها نظام الحكم وتصور أنها تخدم مصلحته، ورفض إشراك أحزاب المعارضة بما فيها تلك التي اقتصر طموحها على تحسين طفيف في بعض المواد الدستورية المعدلة. ونقصد بالعنف التشريعي، استغلال الأغلبية البرلمانية لتمرير قوانين أو لتغيير الدستور أو تعديله بما يؤدي إلى تغيير جوهري في المنظومة التشريعية بلا حوار عام وبدون بذل أي جهد لبناء توافق وطني على هذا التغيير، ويعني ذلك أنه لا فرق بين سلوك "حزب العدالة والتنمية" التركي والأحزاب الحاكمة التي تحتكر السلطة في بلاد أخرى في المنطقة، الأمر الذي يجعل الرهان على دور للحركات الإسلامية في "دمقرطة" هذه البلاد وهماً كبيراً. فالقضية هنا لا تتعلق بارتداء الحجاب في الجامعات من عدمه، ولا بمضمون التعديل الأفضل للدستور من وجهة النظر هذه أو تلك. القضية هي أن الديمقراطية تحلق بجناحين وتسقط إذا كُسر أحدهما، وهما التنافس إلى أقصى مدى، والتوافق الذي يعصم من تحول هذا التنافس إلى صراع لا نهائي يهدد الدولة والمجتمع. وإذا كان في سلوك "حزب العدالة والتنمية" على هذا النحو ما يعتبر عنفاً تشريعياً، فهو يدل -ثانياً– على إهدار مبدأ لا تستقيم الممارسة الديمقراطية في غيابه وهو أن التفويض الانتخابي ليس مطلقاً. فقد تصرف نواب هذا الحزب كما لو أنهم حصلوا على تفويض مطلق من الشعب التركي بأن يفعلوا ما يحلو لهم وما يعتقدون أنه خير. فالتفويض الانتخابي الديمقراطي هو بطبيعته محدود ومؤقت حتى موعد الانتخابات التالية. وهذا هو الفرق بين انتخابات ديمقراطية حقيقية وأخرى شكلية أو محسومة نتائجها سلفاً لمصلحة حزب حاكم يزعم زعيمه عادة أن لديه تفويضاً مطلقاً من الشعب. فالتفويض المطلق يناقض المبدأ الديمقراطي في منطلقه ومبتغاه. فهذا المبدأ يلزم أي حزب حاكم بأن يميز بين السياسات العامة التي يجوز لنوابه أن ينفردوا بالتشريع فيها وفقاً لبرنامج هذا الحزب والذي حصل بمقتضاه على تأييد أغلبية الناخبين، والقضايا المحورية أو المفصلية التي يتعين عليه أن يسعى إلى بناء توافق وطني عام عليها. وإذا كانت قضية الحجاب تبدو صغيرة في نظر بعضنا، فهي قد تكون كذلك في حد ذاتها. ولكنها ترتبط بقضية أكبر وتعد إحدى أهم رموزها، وهي قضية العلاقة بين الدولة والدين. ومعلوم أن هذه العلاقة استقرت في تركيا وفق صيغة معينة يختلف الناس عليها، وفي هذه الصيغة بالفعل من الخلل الكثير. لكن عند تغييرها، لابد أن يتوفر قدر معقول من التوافق الوطني، وليس الإجماع. فالمقصود بالتوافق هنا أن تصل الأحزاب والمؤسسات الأخرى الرئيسة، إلى صيغة مرضية لها يجد فيها كل منها ما يحقق قدراً معقولاً مما يريده. وبديهي أن هذا يعني عدم حصول أي منها على جميع ما يرغب فيه. فالتوافق يعني، ببساطة، تنازلات متبادلة. وهو عمل وطني بامتياز لأن الجميع يتنازلون فيه من أجل الوطن ولكي يعصموه من انقسام قد يعصف به. وهنا التجاوز الثالث في سلوك "العدالة والتنمية"، فهو سلوك انقسامي يؤدي ليس فقط لتكريس الانقسام الحاد حول مسألة الحجاب، وبشأن قضية العلاقة بين الدولة والدين في مجملها، وإنما يهدد أيضاً بتعميق هذا الانقسام وتحويله إلى صدام قد يجعل كل ما حققته تركيا من إنجازات في مهب الريح. لقد خذل "العدالة والتنمية" من توسموا فيه العقل اللازم للوصول إلى حل توافقي للمسائل المتصلة بقضية العلاقة بين الدولة والدين، بما في ذلك مسألة الحجاب. فما كان ليضيره شيء لو تحلى بالصبر وفتح حواراً عاماً بأفق توافقي، بدلاً من المباغتة التشريعية التي لجأ إليها ودلت -ضمن دلالاتها المقلقة- على أن حركات الإسلام السياسي لا تستطيع أن تتجاوز سقفاً معيناً في الممارسة الديمقراطية. وهذا هو الدرس المؤلم الذي يصح أن نستوعبه من التجربة التركية، منذ أن أسفر "حزب العدالة والتنمية" عن وجهه الاحتكاري وأصر على أن يهيمن بمفرده على الرئاسة والحكومة والبرلمان، وليس فقط عندما حسم قضية الحجاب في الجامعات بحركة مباغتة تبدو ماهرة في مجال المبارزة وساحات الكر والفر، لكنها غير مقبولة في مجال السياسة وساحات الممارسة الديمقراطية.