دعوة "روان ويليامز"، أسقف كانتربري، رئيس الكنيسة الأنجليكانية والقائد الروحي لأكثر من ثمانين مليون مسيحي عبر العالم، بإدماج الشريعة الإسلامية ضمن القانون البريطاني مع ما أثارته من جدل واسع خلال الأيام الماضية، لن تكون آخر الدعوات المنادية بهذا الأمر، بل ولا يتعين أن تكون آخر الدعوات. فالحقيقة أن إضافة الشريعة الإسلامية والعمل بها إلى جانب "قانون الأرض"، وهو في هذه الحالة القانون البريطاني، تأتي لتكمل الأطر القانونية المعمول بها حالياً ولا تضعفها، أو تقوضها في أي شكل من الأشكال. لذا فإن الوقت قد حان فعلاً لبريطانيا كي تدمج بعض جوانب الشريعة الإسلامية بمجموعة من الضوابط والقوانين، التي لا تختلف في جوهرها عن القانون البريطاني. ولا بد من التذكير أن الشريعة الإسلامية واضحة في حثها المسلمين، الذين يعيشون كأقليات في مجمعات غير إسلامية، على احترام قانون البلاد والتقيد بمقتضياته. لكن ذلك لا يمنع أيضاً مسلمي بريطانيا من إتباع بعض جوانب الشريعة الإسلامية التي لا تتعارض مع القانون البريطاني، كما أنه ليس من العيب السعي إلى إدخال بعض التعديلات على ذلك القانون، وفقاً للأصول المتبعة والمتعارف عليها في هذا المجال. والواقع أن تصريحات الأسقف البريطاني كانت متبصرة إلى حد بعيد باعترافه بأن التنوع الكبير الذي يزخر به المجتمع البريطاني سينتعش ويزدهر أكثر لو تبنى نظاماً قانونياً تشاركياً يضمن احترام عدد أكبر من الناس للقانون وليس العكس. وشخصياً أعتقد أن هناك ثلاثة أسباب قد تزيد من نسبة الالتزام بالقانون البريطاني واحترامه في حال إدماج الشريعة الإسلامية. أولاً: لن يؤدي الإشراك المتنامي للشريعة الإسلامية في القانون البريطاني سوى إلى إضفاء طابع رسمي وقانوني على ممارسات المسلمين وتحسين ظروف أدائها، بحيث يتمكن المسلمون فعلاً من التمسك بالشريعة دون أن ينتهكوا في أي حال من الأحوال القانون الغربي. فالمسلمون البريطانيون يتقيدون، على سبيل المثال، بأحكام الشريعة فيما يتعلق بأمور العبادة كأداء الصلوات خمس مرات في اليوم، وإيتاء الزكاة، والصوم خلال شهر رمضان، وأداء فريضة الحج. كما أن إدماج الشريعة في القانون البريطاني-وهنا نأتي إلى السبب الثاني- يوفر فرصة لإقامة التوازن الضروري والمطلوب بين القانون اليهودي والإسلامي والمسيحي ضمن منظومة التشريع البريطاني. وكما يعرف أسقف الكنيسة الأنجليكانية يستند القانون البريطاني الوضعي في جوهره وفي الكثير من جزئياته إلى التقاليد المسيحية اليهودية، وهو لذلك يعطي للكنيسة موقعاً مميزاً. لذا فإن إدخال بعض أوجه الشريعة الإسلامية في القانون البريطاني هو بمثابة اعتراف طبيعي بسكان البلاد الجدد الذين ينحدرون من أصول إسلامية مختلفة، كما يوفر فرصة لسن قانون يمثل الديانات الإبراهيمية الثلاث: الإسلامية والمسيحية واليهودية. وبقيامها بذلك تضمن بريطانيا التزام المسلمين بالقانون وإخراجهم من حالة العزلة والتهميش التي يعانون منها والانخراط بصورة إيجابية وفعالة في تحمل مسؤولياتهم المدنية والاضطلاع بواجباتهم داخل المجتمع. أما السبب الثالث الذي يشجع على إدماج الشريعة الإسلامية، فيتمثل في الفوائد التي يجلبها ذلك للمجتمع البريطاني مثلما هو الحال عليه في القطاع الاقتصادي. فكما هو معروف تُحرم الشريعة الإسلامية القروض البنكية القائمة على الفوائد، وكنتيجة لذلك قامت بعض البنوك الكبرى مثل "سيتيبانك"، و"إتش.إس.بي.سي" بتطوير سياسات مالية تلائم احتياجات المسلمين، حيث تعاظمت أرباح تلك البنوك وشجعت البلدان الإسلامية النفطية على الاستثمار فيها. ويمكن أن يسري الأمر ذاته، نظرياً على الأقل، على المجالات ذات الطابع الاجتماعي، بحيث سيقود إدماج الشريعة إلى تحسين المشاركة الحالية للمسلمين داخل المجتمع البريطاني مثل حض الآباء على تولي رعاية الأطفال في حالة الطلاق وغيرها من الأمور. كانت تلك بعض من الأسباب التي تضفي المشروعية على دعوة الأسقف "ويليامز" بتبني الشريعة الإسلامية في بريطانيا، لكن في حال قاد التشكك في هذه الدعوة إلى إثارة المخاوف لدى البعض ممن لا يعرفون حقيقة الشريعة الإسلامية، فإني أجدني مجبراً على الاستفاضة في توضيح بعض الأمور. فالشريعة الإسلامية تشترك مع التقاليد المسيحية اليهودية في الوصيتين الأولى والثانية التي تنص عليها المسيحية والمتمثلتين في حب الله وحب الجار والتي يعتبرهما المسيح عيسى عليه السلام أساس كل قانون وتشريع. وفي مقابل ذلك يحدد الفقيه الإسلامي البارز "ابن قيم الجوزية" ضوابط الشريعة قائلاً "كل قاعدة تتعدى العدل إلى الظلم، والرحمة إلى عكسها والخير إلى الشر، والحكمة إلى السفه لا يمكن أن تكون من الشريعة الغراء في شيء". بيد أن القانون، كما هو معروف للممارسين، كثيراً ما يصطدم بسوء التنفيذ حتى عندما تكون النوايا طيبة والمقاصد نبيلة، وعندها يقود التنفيذ الخاطئ للقانون إلى الظلم. فكما أن القانون في الغرب يتم تأويله وتشويهه أحياناً لتبرير ممارسة التعذيب في الحرب على الإرهاب، يمكن للشريعة أيضاً أن يُساء تطبيقها لتبرير الجور والاستبداد. ومن الأفضل في هذا الإطار إشراك المؤمنين حتى يتسنى مراقبة نظامهم الفقهي بدلا من تركهم عرضة للتهميش والوصاية الخاطئة التي يمارسها البعض عليهم. وكان ذلك بالضبط ما دعا إليه، عن حق، أسقف كانتربري، لأن بريطانيا لا تستطيع تجاهل طابعها التعددي والاعتماد فقط على القانون الغربي الذي يستلهم أسسه من التقاليد المسيحية واليهودية. فيصل عبد الرؤوف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس منظمة "مبادرة قرطبة" للحوار بين الأديان في نيويورك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست".