هل من الممكن أن نعيد التاريخ ونُحيي الماضي كما كان بتفاصيله؟ بكل تأكيد لا يمكن للعقل أن يقبل ذلك، ولا يمكن أن ترجع الأيام الماضية بظروفها، فالأشياء تتغير وتتأثر بمتغيرات حياتية عديدة. كيف لنا أن نحل مشاكلنا الحياتية وفق القياس على ما قام به القدامى؟ أو كيف لمن مات منذ قرون أن يمنحني وجهة نظر لقضية عصرية؟ المؤسف أن هذا التفكير له رُواده، فالكثير ينظر للأزمة الحالية التي يعيشها العرب على أن مكمنها عدم اتّباع القدامى. ويستمر الوضع المتخلف طالما نموذج التطور يتجلى بالماضي الذي ولى. الرغبة العارمة في العودة إلى الماضي تُجسد حالة ذهنية مضطربة، تعاني من عدم القدرة على فهم ظواهر الحاضر والمستقبل، وهي هروب من النفس وانتكاسة، يظن المرء فيها أنه في حالة ارتياح نفسي عندما ينسلخ من الحاضر ليكرس وجوده في الماضي. الدعوة إلى إعادة الماضي يتكرر مشهدها كلما ضغطت الحداثة وحاصرت العقلية العربية بمنتجاتها المادية والفكرية، ففي هذا المشهد لا يجد الإنسان مكانه ويشعر بدرجة عالية من التهميش، فيلجأ إلى الماضي بدلاً من أخذ المبادرة في نقد الذات وتقديم رؤية جديدة لكل الظواهر التي تحيط بنا. لا يمكننا تكرار القديم، ولا يمكن استحضاره بظروفه التاريخية، وهنا مكمن أزمة العقل العربي، الذي يرفض ملامسة الواقع، ويجنح إلى الخيال لكي يحقق ما عجز عنه في الواقع. لقد كان القرن الأول الهجري قرن الوحي والقرآن والفتوحات الإسلامية وقرن تشكيل الدولة وانبعاث الصراع السياسي، في حين كان القرن الثاني قرن الانفتاح على الحضارات، والثالث تميز باللغة والشعر وفنون العمارة، وبعد ذلك توقف كل شيء ولم يُضفْ العرب والمسلمون أي إضافة تذكر تُغير من مسار التاريخ. وبالرغم من كل محاولات التحديث، استمر الوضع المتأزم بسبب الإصرار على المنهج القديم حيث كل محاولات الإصلاح كان هاجسها عودة الماضي، فهي نكوص شكل العقل العربي ودفعه لمزيد من التقوقع على الذات. الإشكالية الكبيرة تتجلى في العجز عن تشخيص الواقع، حيث وجد العربي والمسلم تبريراً لفشله في مقولة الابتعاد عن الدين أو التخلي عن التراث، مع العلم أن عدد المساجد ازداد، والدين كما هو، لكن تبقى الأزمة كما هي حيث العقل لا يرى نفسه إلا من خلال الماضي. يرفض العقل العربي والمسلم أن يعترف بأن إنسان اليوم ليس هو إنسان الأمس، فما بالنا بإنسان القرن الأول أو الثاني الهجري؟ عندما بدأ البث التلفزيوني، ظهرت نزعة لرفضه، واعتبره علماء الدين بدعة، ومن ثم حاربوه، والحال نفسه في التعليم، وفي تولي المرأة المسؤولية في المجتمع، وربما نتذكر في مصر في القرن 19 كيف اختلف الناس على الوضوء من الصنبور، حيث اعتبره البعض يبطل الوضوء إلى أن أفتى أتباع المذهب الحنفي في جوازه، ومن ثم سمي بالحنفية نسبة إلى المذهب الحنفي. واليوم من المسلمين من يناقش جواز جماع الزوجة بالظلام أو بالنور أو في الرضاعة في العمل، أو في تولي المرأة المسؤولية والتفريق بين الولاية العامة والخاصة، وهكذا وجدنا أنفسنا أمام معضلة حقيقية غير قادرين على كسر طوقها تجلت بتعطل العقل. المفارقة الغريبة التي نعيشها تحول فيها الماضي إلى منقذ، وإلى نموذج نبحث عنه في القرن الواحد والعشرين قرن الإنترنت والفضاء المفتوح، ولا نعرف إذا ما كان العقل العربي سيخرج من أزمته ويواجه الواقع بشجاعة من خلال جرأة الطرح في الدعوة إلى نهضة جديدة تقوم على نقد التراث.