كانت تصفية الثعلب الاستخباراتي العسكري "عماد مغنية"، المطلوب أمنياً في 50 دولة، رسالة قوية لمن يعنيهم الأمر، خاصة أنها أتت في أعقاب التهديد الإسرائيلي بتصفية كبار قادة "حماس" وتوقع نائب إيهود أولمرت لقرب انهيار "حماس". ها هم قادة "حماس" اليوم يرتمون في أحضان "الشقيقة الكبرى مصر" طالبين وساطتها لإقناع إسرائيل بقبول "الهدنة" وهم بالأمس أساؤوا إلى مصر وحاولوا تورطيها دولياً عبر تصدير أزمتهم إليها. لكن هذا قدر مصر أبداً أن تفتح قلبها وأحضانها للفلسطينيين والعرب، وتلك رسالتها دائماً أن تعفو وتتسامح وتسمو وتعين وتحمي. "حماس" اليوم في مأزق عظيم، وكل الذين تظاهروا بالأمس لنجدتها لم يغنوا عنها شيئاً، والدول التي زيّنت لـ"حماس" انقلابها على الشرعية، لا تملك اليوم حماية "حماس"، لكن مصر وحدها تستطيع، إذا صدقت نوايا "حماس" واستمعت إلى صوت العقل وراجعت نفسها واعترفت بخطئها. كانت هذه الورطة متوقعة منذ أول يوم أعلنت فيه "حماس" انقلابها الدموي على السلطة الشرعية، كانت كل الدلائل والمؤشرات تقول إنه لا مستقبل لـ"حماس" بالانفراد في حكم هذا الجيب الخانق. لكنها في غمرة مشاعر "النصر العظيم" وفرحة "التحرير الثاني"، تجاهلت النصائح واستمرت في عنادها، وتفننت في التنكيل بغريمتها (فتح) وطردها من غزة ليخلو لها الجو... فماذا كانت العاقبة؟ لقد مكرت "حماس" لغريمتها فانقلب مكرها عليها. "حماس" حركة دينية، وهي ربيبة "الإخوان"، ومثلها مثل بقية الحركات الدينية التي تريد أن تتعاطى السياسة بمنطق "لا عقلاني" سنده "الأوهام"، بعيداً عن معطيات الوضع الإقليمي والدولي وتوازنات القوى الحاكمة، وما ينطبق على "حماس" ينطبق على "حزب الله" وغيرهما. هذه الجماعات لا تحسن إلا فناً واحداً، هو التعبئة الجماهيرية عبر شعارات المقاومة والجهاد والاستشهاد، لكنها إن وصلت السلطة لم تحسن فن "السياسة" و"الحكم" لأنها لا تريد أن تعترف أن السياسة "فن الممكن"، فتعاند وتركب رأسها طلباً لبطولات وهمية وانتصارات زائفة تقنع نفسها وجماهيرها كتعويض عن فشلها في مشروعات البناء والتنمية. لقد راهنت "حماس" مراهنات فاشلة، وظنت باستيلائها على غزة أنها تستطيع مساومة إسرائيل عبر التلويح بالهدنة والتصريح بأنه "لا هجمات من غزة"، وعبر توسيط دول عربية وأوروبية... لكن إسرائيل رفضت كل تلك المحاولات على امتداد سبعة أشهر التزمت فيها "حماس" بالتهدئة ولم تطلق أية صواريخ، لكن الوضع المعيشي للسكان في غزة ازداد تأزماً في ظل حكم "حماس" في الوقت الذي شهدت فيه الضفة في ظل السلطة انفراجاً وزادت عزلة "حماس" عن محيطها العربي، كما نبذها المجتمع الدولي الذي التف ودعم غريمتها "فتح" بـ7 مليارات دولار باعتبارها السلطة الشرعية المسؤولة عن الفلسطينيين وباعتبار "حماس" متمردة على الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية، وسارت الأمور في غير صالح "حماس"، وبخاصة بعد "أنابوليس" الذي أطلق مفاوضات السلام، ووجدت "حماس" نفسها في طريق مسدود، فلجأت إلى محاولتها الأخيرة واليائسة لتحريك الوضع أو تفجيره عبر إطلاق بضعة صواريخ على بلدة "سديروت" الإسرائيلية بهدف تحقيق خمسة أهداف سياسية: 1- كسب الشعبية الجماهيرية التي انحسرت لفشل "حماس" في السلطة. 2- تخريب عملية السلام التي عادت إلى طاولة المفاوضات بعد جمود لمدة 7 سنوات. 3- إجبار إسرائيل على قبول "الهدنة" أو "التهدئة" عبر المفاوضات. 4- إجبار "أبومازن" على الحوار من منطلق الأمر الواقع. 5- تكريس انفصال غزة -سياسياً واقتصادياً- وربطها بمصر عبر اقتحام الحدود بالجموع البشرية وفرض الأمر الواقع على مصر وإحراجها دولياً. ومعروف أن مصر انتقدت "حماس" إثر دفعها النساء لفتح معبر رفح بالقوة... فهل نجحت هذه المحاولة اليائسة؟! لم تنجح محاولة "حماس" الأخيرة في تحقيق أي هدف سياسي، فقد انقلبت صواريخ "القسام" وبالاً على سكان غزة الذين دفعوا ثمنها من أرواحهم إثر الانتقام الإسرائيلي البشع والعقاب الجماعي، ولم تستطع "حماس" استرداد شعبيتها المتدهورة، كما أن "حماس" لن تنجح في وقف عمليات التفاوض إذ عادت من جديد، ولم تستطع تصدير أزمتها إلى مصر وتوريطها، إذ سرعان ما استعادت مصر سيطرتها على الحدود وعزّزتها رافضة أية مشاركة لـ"حماس" في إدارة المعبر لمخالفتها للاتفاقيات الدولية، وهدّد الوزير أبوالغيط "حماس" بقوله: "من يكسر الحدود المصرية ستُكسر رجله". كما لم تستطع فرض أسلوب الحوار على أبومازن، وتجاهلت إسرائيل عروضها بالهدنة. ازدادت ورطة "حماس" وتفاقم مأزقها بعد التهديد الإسرائيلي بتصفية كبار قادتها وتزايد مخاوفهم، خاصة بعد تصفية "مغنية"، وأسقط في يدهم فتواروا عن الأنظار واختفوا ولم يجدوا غير مصر حامية ونصيراً وشفيعة لهم عند إسرائيل! والأسئلة المطروحة على "حماس": ماذا حققت صواريخ "القسام" العبثية للشعب الفلسطيني؟ وماذا كسبت القضية من ذلك؟ وإلى متى يدفع الأبرياء الثمن ويبقى القادة في حصونهم المنيعة؟! لقد خسرت "حماس" سياسياً ودولياً وتوالت إدانات المجتمع الدولي إثر عملية "ديمونة"، وزادت عزلة "حماس" ونبذها من قبل المجتمع الدولي بل حتى التعاطي الشعبي المصري الأولي كرد فعل على الحصار والتجويع، انقلب بسبب تصرفات "حماس" اللاعقلانية إلى غضب شعبي ضدها في وسائل الإعلام المصرية وضد الفلسطينيين عامة، لدرجة أن أبوالغيط وصف عملية إطلاق الصواريخ بأنها "مواجهة كاريكاتورية مضحكة". واستغلت إسرائيل سقوط الصواريخ على سديروت –إعلامياً- ودعت صحفيي العالم إلى هناك، وذلك لكسب التعاطف الدولي تمهيداً لهجومها البري الواسع والمزمع شنه. لقد فاقمت تلك الصواريخ معاناة الغزيين الذين أصبحوا أشبه بـ"رهائن" في سجن كبير، لذلك لا عجب في مشهد الهروب الجماعي لسكان غزة إثر اقتحام الحدود. بطبيعة الحال فإن إسرائيل تتحمل المسؤولية العظمى عن الوضع الكارثي، لكن "حماس" بعدم تبصرها، تمنح إسرائيل مبررات استدامة الوضع، كما تعطيها الذريعة للتنصل من مفاوضات السلام بعد أن التزمت بها في "أنابوليس". المقاومة حق مشروع ولا جدال في ذلك، لكن المقاومة التي تجلب الكوارث وتسترخص البشر، مقاومة عبثية، نحن ضدها. نحن ضد هذا النوع من المقاومة التي يعتمدها "حزب الله" و"حماس" لأنها؛ أولاً لا تقيم أي وزن للإنسان وللحياة، ولأنها -ثانياً- سيئاتها تفوق حسناتها، ولأنها -ثالثاً- لا تحقق أي هدف سياسي سليم، ولأنها -رابعاً- مغامرة بمستقبل الوطن وموارده. لبنان لا زال يسدد كلفة الدمار والخراب بسبب مغامرة "حزب الله" غير المحسوبة والتي سماها "النصر الإلهي"! نحن ضد تفجير الإنسان لنفسه في المدنيين ولو كانوا أعداء، نحن ضد استرخاص الإنسان وتجنيد الأطفال بحجة أن "الإنجاب أفضل أسلحتنا ضد إسرائيل"، نحن ضد الخطاب الديني السياسي الذي تباهى بترديده رمز "إخواني" كبير على منبر الجمعة: إذا كان الغرب يملك القنابل الذرية فنحن نملك القنابل البشرية. هذا هو منطق العدم واليأس والإحباط، منطق من لا يقيم أي وزن لحياة البشر، وهو منطق مرفوض عقلاً وشرعاً وإنسانية وأخلاقاً. الآن "حماس" تريد "الهدنة" ولا فرق عندي بين "الهدنة" و"السلام" في المضمون العملي والهدف، وينبغي على قوى ودول الاعتدال العربي بذل قصارى جهودها لإقناع واشنطن ولإقناع إسرائيل بقبولها، فذلك من مصلحة جميع الأطراف. لننقذ جميعاً "حماس" من ورطتها وعساها أن تكون صادقة هذه المرة.