لا داعي لأي دبلوماسية: لم يكن وزراء الإعلام العرب موفقين في قراراتهم الأخيرة، جاؤوا متأخرين. الفضائيات سبقتهم، دخلت بيوت العرب، أصبحت جزءاً بل الجزء الحيوي من حياتهم اليومية. كان على الوزراء أو بالأحرى على الحكومات، أن تفطن إلى قول كلمتها وإثبات وجودها حين كان ذلك لا يزال متاحاً. كثيرة هي الحكومات التي حاولت حظر الصحون اللاقطة، لكنها فشلت، حتى أعتى الديكتاتوريات لم تنجح في ذلك إلا جزئياً. ظلت الفضائيات قادرة على النفاذ والاختراق، العصر عصرها، وأي محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، محكوم عليها بالإخفاق. ما الفائدة؟ وأين المصلحة في مفاقمة مناخ انعدام الثقة بين الإعلام والحكومات؟ هذه معركة خسرها العرب، رسمياً وشعبياً، منذ زمن، ولا تزال آثار الخسارة معاشة وملموسة، فلا إعلامنا مخلوق طبيعي ومعافى، ولا سياسات حكوماتنا نموذج يحتذى به. أفضل الإعلام هو ذلك الذي يعمل في مناخ نظيف وشفاف، بل في مناخ يتوقع فيه المسؤول أن يُنتقد، ويمارس فيه واجباته على نحو يجنبه الانتقاد. مسألة "تنظيم" الإعلام مسألة سيئة السمعة، ولهذا أسباب واضحة لا تجنٍ فيها، فأي "تنظيم" لا بد أن يُفهم على أنه "تقييد"، خصوصاً إذا لم ينطلق من أن الحريات، هي الأساس وأنها مصانة من دون أي شك. السؤال لا يطرح عندما تلتئم "هيئات" أو "مفوضيات" أو "مجالس" لتنظيم الإعلام في أي بلد يحترم الحريات، فهذه المرجعيات مهما عظمت صلاحياتها لا تستطيع أن تتجاوز الدساتير والقوانين التي تضمن الحريات، وإلا فإنها ستُقاضى هي نفسها بموجب تلك الدساتير والقوانين، وستتعرض قراراتها للنقض والمراجعة والتسفيه. بالطبع، لدينا دساتير وقوانين، بل إن نصوصها تنافس أحياناً أفضل النصوص التي تسترشد بها أقدم الديمقراطيات. الفارق، تحديداً الفارق الشاسع، نجده عربياً في الممارسة حيث تتعطل النصوص وتُتفّه، فالقانون الوحيد المتبع هو "التعليمات" و"التوجيهات" ولوائح الممنوعات. وحتى التراخيص التي تمنح للمؤسسات لإجازة عملها، تكون غاية في الأريحية، إلا أن الترخيص الحقيقي هو ما يتلفظ به المسؤول الحكومي لحامل الترخيص. لعل ما أخّر هجوم وزارات الإعلام على الإعلام، أن المنطقة العربية شهدت في الأعوام الأخيرة ضغوطاً دولية، خصوصاً أميركية، تدفع في اتجاه الدمقرطة والإصلاح وتفعيل حقوق الإنسان واحترام الحريات والتزام الحكم الرشيد ومكافحة الفساد. وفي العامين الأخيرين راحت هذه الضغوط تخف وتتراجع، واكتشف الأميركيون والأوروبيون أن مَن تعرفه أفضل من الذين تتعرف إليهم، وبالتالي فإن الحكومات التي يعرفونها لابد أن تكون أحسن من تلك التي يمكن أن تأتي بالانتخاب. وكان لافتاً خلال الفترة الماضية أن أشد الانتقادات للإعلام العربي، أو للدقة لبعض هذا الإعلام، جاءت من حكومات غربية، وأحياناً مما يُسمى "مراكز أبحاث" سبق أن تباكت على قمع هذا الإعلام والتضييق عليه، لكنه ما أن مارس شيئاً من الحرية وتمكن من البروز عالمياً حتى أصبح عدواً رقم واحد للإعلام الغربي الذي لم يتقبل فكرة أن يتلقى منافسة من أي إعلام "عالمثالثي" ينعتون إعلامييه باللامهنية. لا شك أن مهنية الإعلاميين العرب تحتاج إلى شحذ مستدام، لكن يجب أن نتفق على أن المطلوب مهنية تُسمي الأشياء بأسمائها، وتبحث عن الحقيقة، وتطرح الأسئلة الصحيحة، وتحترم ذكاء المتلقي، ولا تنشغل بترويج الأوهام. بالعودة إلى وثيقة وزراء الإعلام، لابد أن نذهل لكونها تسعى إلى إعادة إنتاج مفاهيم انتهى عمرها الافتراضي. وحتى المبادئ التي تطلب الوثيقة احترامها، وهي محقة، فإنها هي نفسها المفاهيم والقيم التي أمعنت الحكومات في التفريط بها أو في إفسادها. وكلما كانت متطلبات "تنظيم" الإعلام إنشائية كلما كانت مطاطة وغير عملية، أي أنها لا تفيد إلا وصفة للتحكم بالإعلام واحتوائه، وهذه وصفة بالية، ومن يصرّ على تجريب المجرّب فلابد أن عقله مخرّب. أكثر من ذلك، عندما تجرّم الوثيقة أي إعلام يتناقض مع التضامن العربي، لا يبقى أمام وزراء الإعلام سوى أن يثبتوا بالحجة والبرهان، أن هذا التضامن موجود فعلاً وتمكن رؤيته بالعين المجردة.