في اللقاءات العديدة التي أجريها على الفضائيات الإخبارية ومع من ألتقيهم من أصدقائي في لبنان عندما يسألونني عن سيناريو الوضع في بلاد الأرز، أعلِّق بألم وحرقة، إن لبنان يترنح بين "الانفراج والانفجار"، مع ميل إلى السيناريو الثاني في ظل تردي الأوضاع واستمرار قرع طبول الحرب والتهديد والوعيد باسم البلاد والعباد. وفي هذه الأثناء يجد لبنان نفسه وسط حلبة تنافس بين مشروعين متصادمين في "الشرق الأوسط الكبير" أو "الجديد"، منذ صيف عام 2006 عندما تحدثت رايس عن "مخاض" في إقليم كبير كالشرق الأوسط مثخن بالجراح والنزاعات، ومسرح لـ"الفوضى الخلاقة" التي تتصدى لها قوى "ممانعة" تسعى لإفشال المشروع الأميركي بفوضى من نوع آخر تقودها دول ولاعبون من غير الدول كـ"القاعدة" و"حزب الله". ولعل حراجة الموقف اللبناني يلخصها مشهد انقسام شاشات التلفزة و"حفلة الشتائم"، كما أسماها أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله، وقرع طبول التصعيد والتهديد بين الفريقين من قبيل: "نحن لها إذا أردوا الحرب"، و"إذا أردتم الحرب فنحن جاهزون" و"سنحرق الأخضر واليابس"، و"إذا اندلعت الحرب فالمعارضة ستحسمها في أيام". مشهدان متناقضان لم توحدهما المأساة والموت و"الشهادة" كما قال السيد حسن نصرالله في يوم إحياء الذكرى الثالثة لاغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وتزامنها مع تشييع عماد مغنية القائد العسكري والأمني لـ"حزب الله"، الذي بقي سراً وشبحاً متخفياً لعقدين من الزمن. وقد شاهدنا يومها مع اللبنانيين والعالم الانقسام الحاد، على شاشة منقسمة إلى نصفين كانقسام اللبنانيين بين فريقين وفئتين. والحقيقة أن تهاوي الحالة اللبنانية استمر من خلال 22 عملية أمنية شملت اغتيال رئيس الوزراء ووزراء ونواب ومسؤولين عسكريين ومدنيين. وبين تلك العمليات جرت محاولات اغتيال فاشلة، وتفجير عبوات ناسفة، وترهيب للمواطنين، وتعطيل للبنان وتخويف للمستثمرين والسياح. ويكفي للدلالة على حجم الاحتقان أن لبنان البلد ظل منذ الثلاثة أشهر الماضية من غير رئيس جمهورية، ومنذ 15 شهراً من غير برلمان، ويعيش فيه عشرات من نواب الأغلبية في أحد فنادق العاصمة خوفاً من اغتيالهم، بعد أن شهدوا اغتيال ستة من زملائهم منذ اغتيال الحريري بينهم وزير منتخب، فيما يقيم رئيس الوزراء فؤاد السنيورة بشكل دائم مع بعض وزرائه في مبنى السراي الحكومي، محولين مقر عملهم إلى منزل ومكتب معاً! وهكذا تستمر الأزمة كأن كل هذا الحجم من المعاناة لا يكفي، فقد قاسى لبنان كثيراً خلال الأعوام الثلاثة الماضية مع تراجع فرص الحل وتصاعد فرص الاحتكام للشارع والفراغ والفوضى. كما شنت إسرائيل حرباً مدمرة على لبنان في صيف عام 2006. وخاض لبنان أيضاً العام الماضي حرب الـ100 يوم ضد "فتح الإسلام" في مخيم نهر البارد. واليوم هناك خوفان على لبنان: الأول من انزلاقه نحو حرب أهلية مدمرة بتداعياتها الداخلية والإقليمية المقلقة، وهو ما حذر منه دبلوماسي غربي في بيروت مؤكداً أنه: "يوجد انقسام كبير جداً، ولا يوجد حل وسط"، وما ذكره معلق لبناني عن مغزى المشهدين في ساحة الشهداء لإحياء ذكرى اغتيال الحريري وتشييع عماد مغنية، مؤكداً أنه يختصر الانقسام والشلل اللذين يسيطران على لبنان! ولعل اغتيال مغنية وتهديد "حزب الله" بحرب مفتوحة هو أخطر ما في المشهد اللبناني، وما قد ينذر بانفجار صاعق للأزمة بما يتجاوز حدود بلاد الأرز الصغيرة ويتمدد بتداعيات إقليمية، ينزلق من خلالها لبنان الصغير الجميل نحو تلك الهاوية التي لا يريدها له شعبه ولا محبوه. والخوف الثاني مبعثه القلق على لبنان من استمرار الفراغ والوضع الأمني المأزوم الذي سيدفع إلى الدخول في نادي "الدول الفاشلة"، حيث يحتل لبنان اليوم المرتبة الثامنة والعشرين من بين 177 دولة في العالم، تتصدرها السودان وتليها العراق ثم الصومال، في ترتيب لا يرغب أحد في عضويته. أم أن لبنان سيبقى هكذا ينزف ببطء وبشكل متواصل، فيما يسمى "العنف المنخفض الوتيرة" في دولة بدأت تقترب من وضعية "الدولة الفاشلة" Failed State حيث لا تعود الحكومة المركزية قادرة على تأمين الأمن والخدمات ووقف الهجرة واحتواء اللاجئين، ووقف تدخل الدول الأخرى، وسط انقسام وانشقاق داخل المكونات السياسية والدينية والطائفية في المجتمع والدولة، وهي كلها الآن للأسف سمات لبنانية. إنه إذن سباق بين سيناريوهين... فلمن ستكون الغلبة؟