عشية عيد الحب كان المشهد اللبناني متشحاً بالسواد والذكريات الحزينة، يكاد من يغوص في تفاصيله اليوم أن ينسى كيف كان لبنان يوماً "سويسرا الشرق"، كيف كان الحامل الأول لشعلة التنوير والتجديد في الثقافة العربية، وكيف كان يصدّر الكفاءات العلمية والمعرفية لسائر أرجاء العالم العربي، وعلى رأسها القاهرة يوم كانت موئل العلم ومركز التأثير، من أمثال شبلي شميل وفرح أنطوان ويعقوب صرّوف والأخوين بشارة وسليم تقلا مؤسسي جريدة الأهرام وغيرهم. في تلك العشية المبللة بدموع الحزن وصرخات الغضب، كان الحب أكبر الغائبين والمقاطعين لاعتصامات الكراهية المتبادلة والحزن المجترّ من الأمس القريب أو الأمس البعيد، كانت رسالة المشهد الكبرى ولافتته الأبرز تقول: الآن تساوت الرؤوس، لا في البحث عن مخرج، بل في اجترار الأحزان وتخزين الغضب، وأخشى أن أقول انتظار لحظة الانتقام. كان أنصار جماعة 14 آذار يلملمون في ساحة الشهداء جراحهم ويتكئون على فقيدهم الهرم الذي مضى عليه ثلاث سنواتٍ وما زال دمه مهدوراً وقاتله طليقاً وقد تحوّل دمه إلى سلعةٍ في بازار المزايدات السياسية بين الفرقاء، وكان أنصار جماعة 8 آذار في الضاحية الجنوبية لبيروت يضيفون فصلاً جديداً لمراثي الشهداء وسراديب الحزن التي أدمنوها منذ القديم، منذ الحسين وكربلاء وحكاياتٌ أخرى تنضح بالاضطهاد والظلم. المشترك الوحيد بين التجمعين هو دموع السماء التي انهمرت على المشهد كلّه حتى لكأنما هي تبكي على واقعٍ مريرٍ ومستقبلٍ مظلمٍ تخلّى فيه الجميع عن لبنان الوطن، وقسّموا ولاءاتهم إمّا في مساحة أضيق من الوطن "الطائفة"، وإمّا في مساحة خارج الوطن "الدول الخارجية". الشعب اللبناني من أغرب شعوب الأرض، فأبناؤه فيهم الكثير من المبدعين، ولكنّ إبداعهم لا يكون بداخله، بل يكاد أن يكون -دائماً- في خارجه وبعيداً عنه، فالتجمعات اللبنانية في المهاجر من أنجح التجمعات، وهم يشكّلون حيثما حلّوا يداً واحدةً هدفها النجاح ووسيلتها التكاتف والتعاون، ولكنّهم في الداخل بعكس ذلك، ولا أدلّ على هذا من أنّهم استطاعوا في المهاجر أن يوصلوا أفراداً منهم لسدّة الحكم أكثر من مرةٍ في أكثر من بلدٍ، ولكنّهم في الداخل عاجزون حتى عن التوافق على رئيسٍ واحدٍ يخرج البلد من دائرة الفراغ السياسي القاتلة. غير أنّ بين الساحتين فرقٌ ظاهرٌ، تفصح عنه الهوة الكبيرة التي تفصل بين المرثيين هنا وهناك، بين مرثيٍ كان همّه البناء والتنمية وقطع في ذلك المشوار أشواطاً وأشواطاً وقدّم من جهده وفكره وماله وعرقه الكثير وهو رفيق الحريري، وبين مرثيٍ كان همّه التفجير والتدمير والتخريب، لا في مقاومة محتلٍ أو ردّ عدوان غاصبٍ فحسب، بل في تخريب بلدانٍ إسلاميةٍ خالصةٍ، وقتل مسلمين يختلف معهم سياسياً أو يختلف معهم بالنيابة عن الدولة الراعية له وهو عماد مغنية، وإن العجب لا ينقضي ممن يتجاهل هذه الحقيقة ويحاول تغطيتها بعمايات الشعارات ونظريات المؤامرة، حتى لكأنما دم المسلمين المخالفين -كدماء الشابين الكويتيين اللذين قتلهما مغنية في عملية اختطاف الطائرة الكويتية- هدرٌ لا قيمة له، وفي هذا لا يختلف مغنية عن الزرقاوي القابع على ضفة الطائفية الدمويّة المقابلة، ومن المفارقات التي تستفز العقل والمنطق تصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلّم معلقاً على اغتيال مغنية بقوله:(من اغتال عماد مغنية اغتال أي جهد للسلام)! لقد كان المشهد الذي تسابقت الفضائيات على نقله من كافّة زواياه كافياً للتأكيد على أنّ الأكثرية اللبنانية لم تزل أكثريّة كما كانت إن لم تكن قد زادت، وأنّها لم تتأثر بسلسلة الاغتيالات المنظّمة التي سلّطت عليها طوال الفترة الماضية بهدف تغيير التركيبة النيابية داخل البرلمان اللبناني. لم يخف المشهد، وردود الفعل المتعددة تجاه عملية اغتيال مغنية، الحضور الإيراني الكبير، سواء في العزاء أو في المواقف والتصريحات السياسية التي أعقبته، كيف لا وهو رجلها المخلص ومخلبها القاتل ويدها السوداء. إنّ إيران أصالةً، وسوريا بالتبعية، تدركان الآن أنّ لعبة الاغتيالات والتخويف بها، بهدف تحصيل مكاسب سياسية لعبةٌ خطرةٌ، ويمكن لأصغر اللاعبين من الأفراد والجماعات فضلاً عن الدول أن يتلاعب بها، وحين لا يكون في يد اللاعب السياسي إلا مثل هذا السلاح الذي يختصره مصطلح "التخريب" يكون سياسياً فاشلاً دون شكٍ ذلك أنّ هذا السلاح غير المكلف والرخيص هو سلاحٌ ملقى على قارعة الطريق من أراده استطاع الوصول إليه بسهولة، وحينها ستتقلم أظفارٌ ظنّ أصحابها أنّها أطول من أن تنال، وأصلب من أن تقطع. إنّ مبادرة المحور الإيراني من رأسه إلى ذيله لاتهام إسرائيل وأميركا بتنفيذ هذا الاغتيال ومبادرته بالتهديد غير المحسوب من قبل حسن نصر الله زعيم "حزب الله" بالحرب المفتوحة، بهذين الأمرين جعل هذا المحور نفسه أمام خياراتٍ صعبةٍ؛ فهو إمّا أن يبتلع جراحه ويمرّر القضيّة تحت غطاء تصريحاتٍ ناريّةٍ هنا وشعاراتٍ متقدة هناك، وإما أن ينفذّ تهديداته بالحرب المفتوحة فيكون أمام خيارٍ مفتوح آخر لجعل الحرب على الإرهاب الدولي لا تقتصر على جماعاتٍ وأحزابٍ من الطائفة السُنية، بل تتوسع لتشمل شخصياتٍ وأحزابا وحركاتٍ شيعية كانت تلقى تعاطفاً لدى بعض الدوائر الغربية التي كانت ترى فيها أقلية ديمقراطية، وهما أمران أحلاهما مرٌ بالنسبة للمحور الإيراني. لا ينقضي العجب ممن يمارس عمليات الخطف والاغتيال والتفجير في كلّ مكانٍ من العالم، ثمّ حين يستهدف مرةً واحدةً يرغي ويزبد ويتحدث للمرة الأولى عن مكانٍ طبيعي للمعركة، وكأنه لم يجعل كل مكانٍ قبل هذا طبيعياً! تعجبت وأنا أستمع لخطبة زعيم "حزب الله" في تأبين مغنية، وهو يرسل عباراته النارية الغاضبة، ويقذف بحمم الشتائم والتهديدات ذات اليمين وذات الشمال، دون أيّ محاولة لعقلنة تهديداته أو البرهنة على القدرة على تنفيذها، ومن أكثرها إثارة للعجب قوله:"إن دماء الشهيد عماد مغنية ستزيل العدو من الوجود"! وتعجبت أكثر وأنا أرى الجماهير المغيّبة عقلياً والمخدّرة أيديولوجياً تهتف بعد كل عبارة مليئة باليقين والتعصب والأيديولوجيا، فتذكرت ما قاله "غوستاف لوبون" في كتابه سيكولوجية الجماهير ص75: (وبما أنّه لا يمكن تحريك الجماهير والتأثير عليها إلا بواسطة العواطف المتطرّفة، فإن الخطيب الذي يريد جذبها ينبغي أن يستخدم الشعارات العنيفة. ينبغي عليه أن يبالغ في كلامه ويؤكّد بشكلٍ جازمٍ ويكرّر دون أن يحاول إثبات أي شيء عن طريق المحاجة العقلانية)، وما قاله قبل ذلك في ص60 : (مجموع الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور: تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، الميل لتحويل الأفكار المحرَّض عليها إلى فعلٍ وممارسة مباشرة). وإني وإن فهمت لماذا تبكي إيران على رجلها، وفهمت لماذا يعول "حزب الله" على قائده، إلا أنني عجزت عن تفهم أو فهم لماذا يرثي سعد الحريري قاتلاً مثل مغنية! والأعجب كيف تقوم بعض الفعاليات الاجتماعية والمواقع الإلكترونية الخليجية بإقامة مراثٍ متواصلة لذهاب هذا القاتل الذي لم تسلم من جرائمه دولٌ خليجية يُفترض بهذه الفعاليات والمواقع أنها تنتمي إليها!