دشن فوز "لي تينغ هوي" برئاسة الجمهورية في عام 1990 تغييراً جوهرياً في تايبييه، كون الرجل من مواليد تايوان، إلا أن ذلك التطور لم يستطع أن يجتث السخط نهائياً من الجزيرة بسبب استمرار وجود سلطات كثيرة في أيدي من لا ينتمون أصلاً أو ميلاداً إلى تايوان. ولكي ندلل على مدى أهمية هذا الموضوع وهيمنته على أجواء انتخابات عام 2000 الرئاسية، يكفي أن نورد مثلين. فحينما استشعر "ليان تشان" مرشح "الكومينتانغ" المولود في إقليم "شانزي" في البر الصيني احتمال خسارته أمام "تشين شوي بيان"، راح يجتهد أمام الناخبين لإثبات أن جده ينحدر أساساً من تايوان، وذلك في محاولة لتأكيد جذوره التايوانية، وبالتالي كسب المزيد من الأصوات. أما المرشح الرئاسي المستقل وأحد رموز "الكومينتانغ" السابقين "جيمس سونغ تشو يو"، فقد حرص على أن يتقن اللهجة التايوانية المحلية ويتحدث بها في حملاته الانتخابية ليحجب حقيقة انحداره من إقليم هونان الصيني. على أنه من الظلم أن يعزى صعود "تشين" ابن الفلاح إلى قمة السلطة في بلده إلى ذلك العامل وحده، دون التوقف أمام عوامل أخرى مهمة. من تلك العوامل سيرته السياسية المضيئة وعصاميته ونزاهته، وقبل كل شيء دفاعه المحموم عن الديمقراطية وسلطة القانون، ووقوفه بصلابة إلى جانب معتقلي الرأي ونشطاء حقوق الإنسان، مما شكل عنصر جذب للأصوات الانتخابية. فهو لئن انشغل بعد تخرجه من الجامعة في عام 1974 وزواجه في العام التالي من"وو شو تشين" ابنة أحد الأطباء التايوانيين المرموقين التي أنجبت له لاحقاً ابنة وابناً مع آخرين، في تأسيس وإدارة شركة خاصة تحت اسم "مؤسسة فرموزا العالمية للقانون البحري والتجاري"، فإنه انشغل بالسياسة أيضاً ابتداء من عام 1980. ففي هذا العام تبنى "تشين" الدفاع أمام المحكمة العسكرية عن المتورطين في ما عرف بحادثة "فورموزا"، وكانوا مجموعة من المعارضين لنظام الحكم ممن تظاهروا في 10 ديسمبر 1979، أي في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، احتجاجاً على غارة للشرطة على مقر "مجلة فورموزا" غير المرخصة، والتي كانت وقتذاك الصوت الأقوى ضد احتكار "الكومينتانغ" للسلطة. والمعروف أن السلطات لم تكتف بقمع تلك التظاهرة واعتقال منظميها بما فيهم السيدة" أنيت لو" التي ستصبح لاحقاً نائبة لرئيس الجمهورية، وإنما عرضتهم إلى تعذيب وحشي، مما أثار الرأي العام المحلي ودفع بعدد من المحامين البارزين- جلهم تبوأ لاحقاً أرفع المناصب الرسمية- إلى الترافع عنهم مجاناً وتبني قضيتهم بجرأة غير مسبوقة. ورغم أن "تشين" لم ينجح في كسب القضية بسبب رعونة النظام، فإن ما قام به أثناء المحاكمة من مرافعات بليغة ومحكمة، جعل منه نجماً محبوباً في الأوساط الشعبية وشخصية معروفة في وسائل الإعلام المحلية. غير أن الأهم من كل هذا هو أن خوضه لتلك المعركة القانونية الصعبة كان بداية اكتشافه لمدى غياب العدالة في وطنه في ظل نظام "الكومينتانغ" الحاكم، الأمر الذي كان بمثابة البذرة التي جعلت منه معارضاً جسوراً وناشطاً ضمن ما عرف بحركة " تانغواي" - أو ما يمكن ترجمته حرفياً إلى "خارج الحزب" في إشارة إلى أنها تنظيم لكافة السياسيين التايوانيين من خارج حزب "الكومينتانغ" التاريخي - التي ستتطور لاحقاً إلى حزب سياسي باسم "الحزب الديمقراطي التقدمي". لم يتردد "تشين" بعد تلك المعركة وما حققه بسببها من صيت وشهرة في الترشح لعضوية المجلس البلدي للعاصمة في عام 1981 باسم حركة "تانغواي"، ففاز كما كان متوقعاً بمقعد ظل يحتفظ به حتى عام 1985. لكنه أثناء هذه الفترة انشغل أيضا بتأسيس مركز بحثي مؤيد للمعارضة تحت اسم "رابطة أبحاث سياسات الخدمة المدنية"، وقام بإصدار مجلة باسم "فورموزا الحديثة"، وهي المجلة التي كانت سبباً في دخوله المعتقل لأول مرة في حياته. ففي يناير عام 1985 حكم عليه بالسجن لمدة عام واحد بتهمة القذف على خلفية مقال نشر في مجلته وتضمن انتقادات لاذعة لأحد أساتذة الفلسفة المقربين من حزب "الكومينتانغ". وقد جرب "تشين" وقتها بما عرف عنه من براعة قانونية استئناف الحكم، لكن قرار الاستئناف جاء عكس ما كان يأمل، فاضطر في مايو 1986 إلى تنفيذ العقوبة لمدة 8 أشهر في سجن "توتشينغ". على أن الفترة ما بين صدور الحكم وتنفيذه شهدت حدثين مهمين، أحدهما كان فشله في الفوز بمقعد بلدي عن دائرة تاينان في الانتخابات التي أجريت في نوفمبر 1985، والآخر كان إصابة زوجته "وو شو تشين" بشلل في وسطها من جراء اصطدام شاحنة بها أثناء تحيتهما لأنصارهما، وهو ما عزاه الكثيرون إلى مؤامرة خطط لها ساسة "الكومينتانغ" بهدف تخويفه وتهديده من المضي قدماً في معارضتهم. وحول هذه الحادثة التي ظلت طويلاً مصدراً لشعوره بالذنب، قال "تشين" في كتاب سيرته الذاتية "ابن تايوان" لوالد زوجته إنه لن يغفر لنفسه فشله في ما وعده به حينما اقترن بابنته، وذلك في إشارة إلى وعده بألا يدع نشاطه السياسي يلحق ضرراً بأسرته الصغيرة. غير أن الإصابة التي لحقت بالسيدة "تشين" وأقعدتها في كرسي متحرك ولدّت لديها إصراراً إضافياً على مواصلة المسيرة. وهكذا بينما كان زوجها في السجن، ترشحت لعضوية البرلمان وفازت بمقعد فيه مستفيدة من تعاطف التايوانيين مع ما حل بها. أما "تشين"، فقد أنهى فترة عقوبته سريعاً وخرج من معتقله لينضم إلى زوجته كمساعد قانوني إضافة إلى عمله كمحام. من بين الأعوام المميزة الأخرى في مسيرة "تشين" السياسية، يبرز العام 1989 كعام حفل بعدد من الأحداث الايجابية. ففيه انتخب كنائب في البرلمان لأول مرة، وتسلم مهام الرئيس التنفيذي للحزب "الديمقراطي التقدمي"، وفاز بعضوية "اللجنة الوطنية للدفاع" ذات الدور الرئيس في وضع السياسات الدفاعية للبلاد. ونظراً لأدائه الجيد وحماسه المتقد ومواهبه التشريعية في البرلمان وخارجه، استطاع الرجل أن يحتفظ بمقعده البرلماني في انتخابات عام 1992، لكن شغفه بخوض المعارك الجديدة كسباً للخبرة والتمرس في الشأن العام، دفعه إلى الاستقالة عام 1994، أي قبل انتهاء مدة عضويته بسنة، وذلك للتنافس على منصب عمدة تايبييه. وبالفعل، تنافس الرجل على هذا المنصب تحت شعار"مواطنون سعداء في مدينة واعدة"، وفاز به مستفيداً من تشتت أصوات أنصار خصومه بين مرشح "الكومينتانغ" ومرشح الحزب الجديد، ليصبح أول عمدة للمدينة يُنتخب انتخاباً مباشراً من سكانها منذ تحويلها إلى مقاطعة بلدية خاصة في عام 1967. وحينما تبوأ وظيفته الجديدة، واكتشف مدى محدودية خبرة رفاقه الحزبيين في الشؤون الإدارية والفنية ذات الصلة بهذه الوظيفة، لم يجد غضاضة في الإبقاء على الكوادر البيروقراطية التابعة لـ"الكومينتانغ". ويمكن القول إن سنوات وجوده في هذه الوظيفة ذات الالتصاق اليومي بهموم المواطنين، حققت له شعبية إضافية، لا سيما وأنها تميزت بجملة من القرارات والإنجازات المطلوبة شعبياً، والتي بسببها صنفت مدينة تايبييه ضمن أفضل خمسين مدينة في آسيا من قبل النسخة الآسيوية من مجلة "تايم" الأميركية، فضلاً عن اختيار المجلة له ضمن أبرز مائة قائد من قادة المستقبل في العالم. فإليه يعود الفضل في تنظيف العاصمة من مواخير القمار والبغاء غير المشروعة، وفرض الغرامات على ملوثي البيئة، وتعديل صيغ الاتفاقيات الخاصة بمشاريع الأشغال العامة، وإحلال المتنزهات العامة مكان دور البغاء، وإعادة تسمية الشوارع والميادين العامة بأسماء وطنية بدلاً من أسماء رموز "الكومينتانغ" التاريخيين، واستعادة الكثير من الأراضي الحكومية المغتصبة من قبل المتنفذين، وإصلاح وسائل النقل والاتصالات العامة، وتوفير مستويات أرقى وأفضل من الرعاية الاجتماعية والتعليم والترفيه والثقافة.