يعرف كثيرون أن الصفقة في عالم المال والتجارة عبارة عن مفاوضات تجري بين رجال الأعمال وأصحاب الشركات ومنتجي السلع بهدف تحقيق مكاسب مادية مقابل قيمة مالية أو تبادل سلعي عاجل أو آجل، في ظل تنافس يفرضه السعي إلى الثراء وحصد مزيد من الأموال. ورغم أن الصفقات في عالم السياسة تتشابه في نواح كثيرة مع صفقات عالم المال والأعمال، من حيث وجود مغريات وحوافز ومكاسب يجري التفاوض عليها، فإنها تختلف جذرياً من ناحية التأثير والنتائج، لأن السلعة هنا سلطة ومصالح وتقاسم نفوذ، أطرافها على استعداد لخوض حروب دامية من أجل الحصول عليها والتمسك بها، لذلك فهي تتم في إطار نظرية "جبل الجليد"، البعض لا يرى سوى قمته، في حين أن النشاط الرئيسي لمفاوضات الصفقة يجري في الخفاء بكل نشاط وجهد ومثابرة وعلى مستويات متعددة، ومن خلال الاتفاقات والعمليات السرية وأنشطة أجهزة المخابرات والتحالفات المعلنة وغير المعلنة بين الأعداء والخصوم، وتكون عادة "مباراة صفرية"، تتساوى المكاسب فيها مع الخسائر، بمعنى أنه بقدر حجم التنازلات يكون العائد، ولا شيء في السياسة كله خير لا يشوبه ضرر، والعكس صحيح. ومع ما يجري في الشرق الأوسط حالياً مع نهاية عام وبداية عام جديد -من تراكم أحداث وتوارث أزمات سياسية وأمنية، وانتشار حالة من عدم الاستقرار وافتقاد الأمن، وتصاعد حدة الصراعات والتنافس بين القوى الإقليمية والدولية، وبروز حالات من التقارب والتحالفات- يمكن أن نستشعر وجود صفقة كبرى تجري الاتفاقات حولها بين أطراف مختلفة، على حساب مصالح وتوجهات وسياسات الدول العربية والخليجية. أطراف هذه الصفقة هم الجمهورية الإسلامية الإيرانية (الفارسية- الشيعية)، وإسرائيل (الصهيونية- اليهودية)، وتركيا (العلمانية- الأوروبية)، وروسيا الاتحادية (الباحثة عن دور عالمي)، والإرهاب (العقائدي- المتطرف)، ومقاول الصفقة أو الذي يديرها هو نخبة الولايات المتحدة الأميركية (المسيحية-الصهيونية)، أما ما يجري الاتفاق حوله فهو إعادة تقسيم مناطق النفوذ، وتقاسم المكاسب، وفرض السيطرة على منطقة الطاقة العالمية. لذا فالسؤال المطروح: ما هو الإطار العام الذي يربط بين الأحداث المختلفة ويوضح أبعاد الصفقة ومكاسب أطرافها، ويصل ما يجري في غرب الشرق الأوسط بما يدور في شرقه؟ وذلك بعيداً عن الإغراق في نظرية "الفوضى الخلاقة" التي اخترعها بوش الصغير، أو نظرية "الفوضى المنظمة" التي يتعامل بها علماء الرياضيات، حيث توجد إرهاصات كثيرة تشير إلى وجود الصفقة، تعبِّر عنها التصريحات المستترة للمسؤولين والتحركات على الأرض من مختلف الأطراف المعنية بإتمامها. ففي الشهور الأخيرة الماضية، صدر اتفاق أو بيان مؤتمر "أنابوليس"، واكبه "إعلان المبادئ الأميركي- لعراقي، وصدور تقرير أجهزة المخابرات الوطنية الأميركية بتبرئة إيران من تهمة توجهها النووي العسكري، بما يوفر لواشنطن الحجة للتراجع عن تصريحاتها العنترية بضرب إيران، وقيام روسيا الاتحادية بتوريد كامل شحنة الوقود النووي لمفاعل بوشهر الإيراني، وكأنها على يقين تام من أن المسألة الإيرانية في طريقها للحل، وانسحاب بريطانيا من البصرة وبعض المناطق الشيعية الأخرى تزامن معه ظهور جيش "لصحوة"ليقاتل المعركة الأخيرة ضد المتمردين والإرهابيين في العراق، ثم ضبط النفس التركي مقابل الاستفزاز الكردي والاكتفاء ببعض الضربات الجوية، والفراغ السياسي في لبنان الذي ذهب رئيسه ولم يعد، واغتيال بينظير بوتو والمسؤول عنه لا يزال مجهولاً حتى إشعار آخر، وتقاسم أفغانستان بين "طالبان" وقرضاي و"الناتو" الذي ترفض معظم دوله توفير الحجم المناسب لتأمين البلاد، ثم أخيراً أحداث غزة الدامية ومحاولة تهديد الأمن القومي لمصر بتجاوز الحدود الدولية في فوضى لم تحدث من قبل، وربما تدفع مصر في المستقبل إلى الصدام مع الغزيين. كل هذه الأحداث تصب في مصلحة واحدة هي خدمة الإمبراطورية الأميركية برئاسة بوش الصغير؛ فالتهديدات المستمرة لإيران من جانب إسرائيل، والأوضاع المتدهورة في باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال وتشاد والجزائر وموريتانيا، واستمرار حالة من عدم الاستقرار والفوضى وافتقاد الأمن، رغم أن حكومات هذه الدول لا تزال تمارس أعمالها وتتظاهر بأن كل شيء على ما يرام وتحت السيطرة... كل ذلك يسمح بإتمام صفقة. وليس خافياً أن الإدارة الأميركية الحالية برئاسة بوش الصغير "الجمهوري" تمر بعام "الحسم الانتخابي"، وترى ضرورة أن تحصد بعض الثمار لسلوكها "غير العقلاني"، أو على الأقل ترتيب الأوضاع للحد من الخسائر، وربما توفير الظروف المناسبة التي تسمح بفوز ""الحزب الجمهوري" الأميركي في الانتخابات الرئاسية، خاصة لو حصد بوش الصغير نتائج ملموسة من الصفقة. في باكستان تجري الصفقة لصالح استمرار الرئيس برويز مشرف وعساكره في الحكم؛ مقابل السماح بالسيطرة الأميركية على القدرات النووية الباكستانية من جانب، وقيام القوات الباكستانية بدعم أميركي بالقضاء على التمرد في منطقة القبائل من جانب آخر، وأن تصبح باكستان مرتكزاً أساسياً لنشاط المخابرات المركزية الأميركية في المنطقة. وإذا انتقلنا إلى أفغانستان فإن الصفقة تميل إلى توطيد دعائم حكم الرئيس قرضاي؛ وإطلاق يد "الناتو" ليتحمل هذه المسؤولية كاملة، ربما ليتذوق طعم الخسائر ويشعر بما تعانيه القوات الأميركية في العراق، ويستمر في شن العمليات الانتقامية ضد حركة "طالبان" التي رفضت تسليم ابن لادن ووفرت له الحماية والملاذ الآمن وجعلته طليقاً حتى الآن، مقابل استمرار الدعم الأميركي المادي والمعنوي السخي للحكومة الأفغانية، وخروج القوات الأميركية من أفغانستان لتزيل حجج تنظيم "القاعدة" ومبررات قتاله القوات الأجنبية ومساندتها للرئيس الأفغاني قرضاي. أما الصفقة مع إيران فإنها معقدة نسبياً ومتداخلة، تتعهد بموجبها واشنطن بعدم القيام بأي إجراءات أو أنشطة تهدف إلى تغيير نظام حكم الملالي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والسماح بإطلاق يد "شيعة فارس" في دول المنطقة، خاصة العراق ولبنان، والاعتراف بها كقوة إقليمية كبرى، وأن تظل طهران "بعبع" الخليج و"فتوته"، في مقابل تخلي ملالي إيران عن تهديد أمن إسرائيل؛ وفك تحالفها الاستراتيجي مع سوريا، وقبول إنتاج الوقود النووي في الخارج أو على الأقل تحت إشراف الولايات المتحدة، وعدم الوقوف ضد المصالح الأميركية في المنطقة، وتأمين إعادة انتشارٍ مشرفٍ للقوات الأميركية في العراق، وهذا ما يبرر التضارب الحالي في السلوك الأميركي تجاه طهران، والإشارات المشوشة التي تصدر عن أجهزة المخابرات الأميركية، والرسائل المستترة الصادرة عن النخبة الحاكمة في إيران وعلى رأسها المرشد الأعلى للثورة التي تركت الباب موارباً لعودة العلاقات مع أميركا، ودخول فرنسا وألمانيا على الخط المتشدد تجاه إيران بديلاً عن التشدد البريطاني- الأميركي. والعراق ساحة صفقات مهمة أيضاً، بعد أن حان الوقت لكي ندرك أن العراق يشكل فخاً للولايات المتحدة الأميركية أكثر من كونه فرصة لدحر الإرهاب، ومواجهة التهديدات التي تؤثر في المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وقد حان الوقت لإيقاف خطوات تكريس الفشل، ثم إعادة الانتشار التدريجي، لذا فإن العمل يجري حالياً على قدم وساق لمنح الشيعة أكبر قطعة من الكعكة العراقية في ظل حكم الحكومة الطائفية الراهنة ومنحها شرعية البقاء في السلطة، والحفاظ على المكاسب السياسية للكيان الكردي في الشمال، ومنح "رجال الصحوة" الفرصة للانتقام والتنفيس عن ظلمهم، سواء من "القاعدة" أو الشيعة أو البشمركة، لكن وفق سقف محدد لا يتخطونه، كل ذلك مقابل تخفيف العبء العسكري عن القوات الأميركية وفك ارتباطها الميداني، وتوقيع بغداد معاهدة استراتيجية مع واشنطن يعاد بموجبها انتشار القوات الأميركية في قواعد عسكرية داخل العراق تستطيع من خلالها التأكد من التزام مختلف الأطراف بالصفقة الكبرى، والضغط لتعديلها عند الحاجة، فالصفقات تبدأ ولا تنتهي وسط تجدد الأطماع والسعي لزيادة المكاسب. أما الصفقات الأخرى فهي منح إسرائيل فرصة القضاء التام على الفلسطينيين واختزال دولتهم كما تريد وفرض شروطها للاستسلام، مقابل عدم مبادرتها بالهجوم على إيران، وقبول تقسيم لبنان، وتأييد يهود أميركا للمرشح الجمهوري. كل هذا سيقود إلى نتائج كارثية ليس للعرب فيها ناقة ولا جمل، بل سيكونون ثمناً وضحايا للصفقات التي تجري في المنطقة، ويتم خلالها إعادة توزيع مناطق النفوذ.