كنا ما نزال نتأمل أحداث يوم الخميس الرابع عشر من شباط (فبراير) ببيروت، عندما أبلغت الأرصاد الجوية المواطنين اللبنانيين بحصول زلزال ظهر الجمعة مقداره خمس درجات بمقياس ريختر، بدأَ من مدينة صور بجنوب لبنان وانتشر على طول الساحل إلى ما بعد مدينة صيدا، وخلّف أضراراً في المباني، وجراحاً في المواطنين! وعندما كنا نتجمع بوسط بيروت، في ساحة الشهداء ضُحى يوم الخميس لإحياء الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس الحريري، كان مقاتلو "حزب الله" يقيمون طوقاً محكَماً حول الضاحية الجنوبية لبيروت، استعداداً لتشييع جثمان عماد مغنية، الكادر الرئيس بالحزب، والذي قُتل بدمشق في اليوم السابق، بمتفجِّرةٍ وُضِعَتْ في سيارته بعد وصوله للعاصمة السورية بساعاتٍ قليلةٍ قادماً من طهران. وفي النهاية تجمع بساحة الشهداء على مقربةٍ من ضريح الرئيس الحريري زُهاء مليون شخص، ثلثاهم من أهل السنة، والثلث الباقي من المسيحيين والدروز. في حين تجمَّعَ بالضاحية زُهاء ربع مليون شخص أكثرهم من الشيعة، للاستماع إلى خطَب الإشادة بمغنية والتعزية به. وكان في مقدمة الخطباء وزير الخارجية الإيرانية "منوشهر متقي" الذي نقل أيضاً تعازي الولي الفقيه، ورئيس الجمهورية الإسلامية، إلى السيد حسن نصر الله والحزب والجمهور. خطباء ساحة الشهداء الخمسة عشر الذين أصغى إليهم جمهورٌ هائلٌ صابرٌ تحت الأمطار والأعاصير، ركّز الرئيسيون منهم على أربعة أُمور: اقتراب أوان كشف الحقيقة بشأن اغتيال الرئيس الحريري، وإحقاق العدالة. واتّهام النظام السوري بنشر التفجيرات والاغتيالات والاضطراب بلبنان. والنعي على حلفائه أنهم يخضعون لمشيئته في تخريب بلادهم. والتأكيد على ضرورة انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية هو العماد ميشال سليمان عاجلاً غير آجِل. ودعوة الأطراف المعارضة، وبخاصةٍ "حزب الله"، إلى الحوار والتلاقي والمُصالحة لإعادة مؤسسات الدولة للعمل والفعالية. وما كان ذلك شأن السيد حسن نصر الله في خطابه المتفجّع والحماسي باغتيال عماد مغنية. فالجانب اللبناني ما نال من وقته غير ثلاث أو أربع دقائق، رفض فيها اليد الممدودة إليه (من سعد الحريري خاصة) لأنّ المهرجان- كما قال- كان مهرجان شتائم لا تليق بذكرى الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كما دعا أولئك الذين يريدون الطلاق الودّي (ويقصد النائب وليد جنبلاط) للمغادرة إلى أحبابه في واشنطن وتل أبيب، لأنّ لبنان لن يُقسَّمَ ولن يُفَدْرَلَ، ولن يكون تابعاً لأميركا أو لإسرائيل! أما القسم الرئيسي من خطاب السيد نصر الله فدار على بيان مآثر الفقيد، وأعماله النضالية والجهادية، وأفضى به ذلك إلى نبوءةٍ وتهديد. النبوءة تقول بزوال دولة إسرائيل من الوجود استناداً إلى أمرين: كلام لبن غوريون مؤسّس الدولة اليهودية والذي قال إنه إذا انهزم الجيش الإسرائيلي مرة فذلك سيكون إيذاناً بسقوط الدولة، وقد انهزم الإسرائيليون في حرب تموز باعترافهم. والأمر الآخر أنه كما أزال دم الأمين العام للحزب السيد عباس الموسوي الاحتلال الإسرائيلي للجنوب؛ فكذلك سيزيل دمُ الشهيد مغنية دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. أمّا التهديد فكان موجَّهاً لإسرائيل أيضاً، وجاء فيه أنّ العدوَّ قتل مغنية خارج ساحة المعركة في دمشق، وإذا كان العدوّ بذلك قد اختار الحرب المفتوحة؛ فإنّ "حزب الله" لن يتأخّر في شنّ تلك الحرب في كل مكان. كان اللبنانيون قد نسوا عماد مغنية منذ مطلع التسعينيات، بعد أنْ روَّع بيروت والأجانب فيها بالخطف والقتل، وذُكر اسمُهُ في تفجيري مقر المارينز والقوات الفرنسية، وتفجير السفارة الأميركية. وقالت أجهزة الاستخبارات الغربية إنه استقرَّ في طهران وتردَّد قليلاً على سوريا. ثم ظهر اسمُهُ أثناء حرب يوليو 2006 إذ قيل يومَها إنه هو الذي دبَّر عملية خطف الجنديين الإسرائيليَّين اللذين شكّلا ذريعةً نشوب الحرب، وأنه هو الذي يدير عملية إمداد "حماس" بالأسلحة والأموال. والواقع أنّ حرب يوليو بالذات كشفت وبعُمقٍ عن الأفق الجديد/ القديم لـ"حزب الله" ونشاطاته. إذ برزت له ثلاثة وجوه: وجه تمثيله لحصّة الطائفة الشيعية على الأرض اللبنانية وفي النظام اللبناني، بعد أنْ كان اتفاق "تقسيم العمل" بين الرئيس حافظ الأسد والإيرانيين، قد أعطى الرئيس نبيه بري مهمة تمثيل تلك الحصة، وأعطى "حزب الله" الحقَّ الحصريَّ في المقاومة. الوجه الثاني للحزب هو إنفاذُهُ التكليفات الإيرانية في دعم "حماس"، وفي حماية مصالح النظام السوري وحلفائه في لبنان. والوجه الثالث تشكيُلُه "النموذج" الساطع لإشعاع الثورة الإسلامية الإيرانية في البُعدين: الشيعي والقومي- الإسلامي. وفي نطاق تمثيل هذا الوجه استقبل الحزبُ في لبنان خلال العقدين الماضيين ألوفاً من الشبان العرب (شيعة وسنة) ودرَّبهم، كما فعلت الثورة الفلسطينية من قبل. وقد ظهرت نتائجُ تلك النشاطات خلال السنوات الماضية بالعراق، وبعد حرب يوليو في لبنان وأقطار عربية أخرى. والواقعُ أنّ هذه الوجوهَ كلَّها ظهرت بوضوح بعد حرب يوليو. فقد كانت تلك الحرب ضمن التكليف بحمل راية فلسطين، والنعْي على العرب أنهم تركوها. ومن ضمن ذاك الدور أيضاً إيصال الجهاز العسكري/ الأمني لـ"حماس" إلى التمرد والانقلاب والاستيلاء على غزة. لكنْ بعد حرب يوليو مباشرةً، ارتدَّ الحزب إلى الداخل، وقيَّد حركة الرئيس بري، ووثّق تحالُفَهُ مع الجنرال عون، ووقف سداً منيعاً دون العودة إلى المؤسَّسات الدستورية. وما أمكن التمييزُ في ذلك بين الأمرين: أَمْر حماية النظام السوري الذي كان وما يزال يحاول تعطيل قيام المحكمة الدولية، وأمر إبقاء المؤسَّسات فارغة أو مشلولة ليظلَّ ممكناً بدون عوائق التدخُل في فلسطين لمساعدة "حماس" مع ازدياد التضييق عليها من جانب إسرائيل. وجاء اغتيالُ عماد مغنية بدمشق لُيلقي الضوءَ على دور الحزب في فلسطين مع حركة "حماس"، وخِطَطه لمتابعة نشاطاته ضد إسرائيل لدعم الحركة أو لإبراز حقيقة أنّ إيران– بخلاف العرب- لا ترى إمكانيةً للتعامل مع المشكلة الفلسطينية إلاّ من خلال الكفاح المسلَّح. ويبدو أنّ الحزب ما يزال متحيّراً في كيفية التعامُل مع القوات الدولية بالجنوب اللبناني، والتي حلّت هنالك بمقتضى القرار 1701 إثر حرب يوليو 2006. فقد قال السيد نصر الله في خطابه التأبيني يوم الخميس إنه يعتبر مقتل عماد مغنية استمراراً لحرب يوليو. ومن الواضح أنه لا يستطيع هو ولا إسرائيل متابعة العمليات بالجنوب دون الاصطدام بالقوات الدولية والجيش اللبناني. ولذلك فتح نافذةً أُخرى عندما قال إنّ عملية الاغتيال جرت خارج ساحة المعركة، ولذلك يمكن لها أن تبرر العمليات الخارجية، ضد إسرائيل ومصالحها، ومن غير جنوب لبنان. وعندنا تجربتان في "العمليات الخارجية": تجربة الفلسطينيين في السبعينيات من خلال "أيلول الأسود"، ومن خلال خطف وديع حدَّاد (الجبهة الشعبية) للطائرات. والتجربة الأُخرى هي التجربة الحالية لأُسامة بن لادن والظواهري. وإذا كان النضال الفلسطيني قد أنتج سُمعة "الإرهاب العربي"؛ فإنَّ عمليات "القاعدة" أنتجت سمعة "الإرهاب الإسلامي"، وتسببت في "الحرب العالمية على الإرهاب"! وقد أوقع خطف الطائرات، كما أوقعت عمليات "القاعدة"، أضراراً كارثيةً بالعرب والمسلمين، بل وبالإسلام نفسه! و"حزب الله"، بخلاف الفلسطينيين و"القاعدة"، ذو أيديولوجيا ومنطلقات معروفة، ولديه أرضٌ معروفةٌ بلبنان، وله أساسان في طهران ودمشق. ولذا ستكون مشكلته أكبر إذا قرر الاصطدام بالقوات الدولية أو ممارسة عمليات ضد الإسرائيليين ومصالحهم في العالم. هكذا يبدو أنّ الإسرائيليين يُعِدُّون لحرب، في المرة الماضية أثارهُم عماد مغنية و"حزب الله"، وهذه المرة أثاروا هُم "حزب الله" وسوريا باغتيال مغنية. المرة الماضية استدرجهم الحزبُ إلى الحرب، وهذه المرة يحاولون هم استدراج الحزب. وبالإضافة إلى أجواء الحرب في غزة وعلى خط الزلازل: إسرائيل- لبنان وسوريا، هناك التوتر المتزايد بالداخل اللبناني- السياسي، وبين السنة والشيعة. وهنالك أيضاً خروج النزاع السعودي- السوري إلى العلن، وإفشال سوريا والحزب للمبادرة العربية. وما بقيت جهةٌ لبنانيةٌ أو إقليميةٌ أو دوليةٌ هذه الأيام إلاّ واستخدمت المحكمة الدولية لمحاكمة قَتَلَة الحريري للوعيد أو للتهديد. وبذلك تُضافُ إلى زلازل الطبيعة، زلازل الوقائع السياسية والأمنية التي تسلب النومَ من عيون كل اللبنانيين! نزل اللبنانيون إلى ساحة الشهداء للمطالبة بانتخابات رئاسية وإعادة المؤسَّسات للعمل، وخرجوا من الساحة وهم يهجسون بأنّ موضوعهم يقع بين خطَّي الكونغو وشيكاغو. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!