انعقد مجلس وزراء الإعلام العرب في جلسة استثنائية بالقاهرة لمناقشة وإقرار وثيقة مبادئ وأطر لتنظيم البث والاستقبال الإذاعي والالكتروني عبر الفضاء في المنطقة العربية. المسألة فيها الكثير من التحدي، لكن توقيت طرحها جاء متأخراً. كان من المفترض، وقبل انتشار المئات من المحطات الفضائية العربية، ومع تلقي المشاهدين العرب أخبار وصور الآلاف من المحطات الفضائية العالمية، أن يتم تحضير التشريعات والقوانين اللازمة لتنظيم هذا النوع من البث. وكان يمكن الاستفادة من تجارب الدول المختلفة بأنظمتها، ومن التشريعات التي أقرتها. وفي منطقتنا العربية، كان لبنان، الدولة الأولى التي أقرت قانوناً للإعلام المرئي والمسموع عام 1994، نظراً لفرادة نظامه في المنطقة، وهو النظام القائم على الديمقراطية والتنوع والتعددية وحرية التعبير، ويوجد فيه عدد من وسائل الإعلام المرئي والمسموع إلى جانب وسائل إعلام الدولة. ولا شك في أن هذا القانون بات بحاجة إلى كثير من التعديلات الجوهرية انطلاقاً من التجربة والخبرة المكتسبتين على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية، ومن التطورات الهائلة التي شهدها ويشهدها هذا القطاع على المستوى التقني، إضافة إلى بروز وانتشار ظاهرة الانترنت، وهي نوع آخر من البث يتناول قضايا وشؤوناً سياسية وغير سياسية مهمة، ويستخدم في تمرير كل أشكال الرسائل والمواقف والمواد التي يرغب أصحابها في تعميمها بسرعة ودون رقابة من الناحية المبدئية. أما في الدول العربية الأخرى، فثمة من بادر، وبعد سنوات من التجربة اللبنانية، إلى إقرار القوانين المطلوبة، وثمة دول أخرى ليس لديها هيئات وقوانين ترعى وتنظم شؤون هذا القطاع حتى الآن، رغم أن لديها عدداً من المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة الرسمية -إن صحّ التعبير- وعدداً كبيراً من المؤسسات الخاصة التي تبث من أراضيها. وبدأت هذه الدول بتحضير التشريعات المطلوبة. وبالتالي، فإن الوثيقة التي أقرت في اجتماع وزراء الإعلام العرب، وسميت وثيقة استرشادية ليست قراراً ملزماً بالتأكيد. هي كناية عن عناوين وأفكار واقتراحات يمكن اعتمادها قانونياً، كما يمكن عدم اللجوء إليها، لأن لدولنا خصوصيات يجب مراعاتها، وفيها أنظمة مختلفة، ولا يستطيع أحد أن يفرض شيئاً على أحد، إنما يمكن إيجاد الأطر اللازمة والضرورية للتعاون. ولا شك في أن الاجتماع كان محور اهتمام كل الوسائل الإعلامية والصحافة والإعلاميين عموماً، وقيل الكثير عن توجهات لتقييد حرية الإعلام المرئي والمسموع من قبل مجلس وزراء الإعلام العرب. والنقاش بحد ذاته على هذا الموضوع مهم وضروري خصوصاً عندما يتخذ المنحى العلمي والعقلاني والهادف فعلاً إلى تعزيز الحريات والديمقراطية في عالمنا العربي. أما الدخول في مزايدات حول هذا الموضوع من قبل فئات أو جهات أو قوى أو أنظمة تمارس شتى أنواع الرقابة على الحريات عموماً وحرية التعبير والصحافة والإعلام وتمنع بثاً عبر المواقع الإلكترونية أو إدخال صحف ومجلات إلى أسواقها، لأن في بعضها نقداً لسياسة الدولة أو مواضيع تتحدث عن حرية المثقفين والإعلاميين والسياسيين في التعبير عن رأيهم، فإن في ذلك سقوطاً كبيراً وانحرافاً ومحاولة مكشوفة لتصفية حسابات سياسية معينة مع قوى أو جهات أو دول أو أنظمة، وبالتأكيد فإن هذه المحاولة لا تتمتع بشيء من الصدقية. الموضوع المطروح يتطلب الشجاعة في مقاربته ومعالجته، ونحن انطلاقاً من تجربتنا في لبنان، قلنا كلمتنا في المؤتمر بالتأكيد أولاً على أن الحرية والديمقراطية أساسان لا يمكن المسّ بهما. ولا يجوز لأحد أن يقيّد الإعلام في الأساس فكيف اليوم؟ لبنان كان بلداً للحرية والديمقراطية والتنوع، وصاحب تجربة فريدة في هذا المجال ورائداً في الصحافة العربية والإعلام العربي، وسيبقى كذلك رائداً في اتخاذ الخطوات المطلوبة لتعزيز حرية الإعلام والدفاع عن الإعلاميين، وشريكاً أساسياً في هذه العملية مع الإخوة العرب الآخرين في كل مكان. وذلك لا يتناقض بالتأكيد مع وجود قوانين وأنظمة ترعى البث التلفزيوني والفضائي تقنياً وتحفظ حماية حرية وحقوق الدولة من جهة أخرى. ولذلك فإن اعتبار مبدأ وجود قوانين وأنظمة تقييداً للإعلام بالمطلق، من دون مناقشة النصوص والوقوف عليها، أمر غير منطقي. ولا شك في أن هذه المناقشة قد تأخذ وقتاً طويلاً. بل أقول إن النقاش لن يتوقف حول المعايير التي يمكن اعتمادها، وحول تفسير هذه الكلمة أو تلك، وحول الأمور التقنية والقانونية الأخرى. ودورياً تخضع القوانين المعتمدة في دول عديدة إلى تعديلات حتى أن ملفات البعض منها باتت تحتوي على آلاف الصفحات. ولكن هل ننتظر إلى ما لا نهاية في النقاش، ونبقى دون قوانين وأنظمة تحمي الإعلام -وأشدد على كلمة تحمي- من ممارسة التسلط عليه، وتحمي الدولة في الوقت ذاته من إدانتها بممارسة مثل هذا الأمر؟ لا أن التشريعات والأنظمة والقوانين ضرورية، وهي المرجع في بت أي نزاع أو خلاف أو مشكلة، وهذا بحد ذاته يقطع الطريق على نية أي كان في تقييد الإعلام دون أن يكون مكشوفاً ومداناً. وإذا تمكن بعضهم بممارسة هذا الأمر وانتقم من وسيلة إعلامية أو من إعلاميين، فإن إمكانية نجاحه دون الإدانة والسقوط وتكريس صورة الظالم والمستبد عليه، أمر غير ممكن. مهما استقوى هذا أو ذاك، ومهما ظلم، فلا شيء يدوم، والحرية لا يمكن تقييدها والإعلام لا يمكن إخضاعه. واليوم أكثر من أي وقت مضى تتكرس هذه الحقيقة. يبقى علينا نحن الإعلاميين أن نكون دائماً منحازين إلى مهنة الإعلام، إلى الحرفية في ممارستها، وإلى تحكيم العقل والمنطق في ما نقول ونكتب، لأننا ندرك، بل يجب أن ندرك، دورنا في صناعة الرأي العام وحماية مجتمعاتنا، ويجب أن يكون سقفنا القانون، فلا يتناقض هذا الدور مع القوانين والتشريعات التي لا بد منها، والتي يمكن أن يكون لنا دور فاعل في صياغتها. هذه دعوة إلى الشراكة في المسؤولية.