بحلول يوم الأحد المقبل يتوقع أن تكون دولة جديدة قد رأت النور في أحضان أوروبا، حيث ينتظر أن يُعلن عن استقلال إقليم كوسوفو، في لحظة ستنهي مسلسل تفكك يوغوسلافيا الذي استمر طيلة سبعة عشر عاماً الأخيرة وبدأت شرارته باندلاع حرب انفصال سلوفينيا. ولا شك أن الدولة الوليدة التي سيُعلن عنها بعد مخاض عسير وصراعات مريرة وصلت حد ارتكاب مجاز التطهير العرقي ضد ألبان كوسوفو، ستثير حفيظة صربيا التي مازال رئيس وزرائها يتحدث عن "الدولة الوهمية داخل الحدود الصربية". وسيرتفع صوت روسيا محتجاً، ناهيك عن رجوع التوتر إلى منطقة البلقان لبعض الوقت، وانكباب المحامين على مخارج قانونية وسوابق دولية. والواقع أنه لا المعطيات الدولية الحالية ولا الظروف الإقليمية في أوروبا تساعد على تجاهل تطلعات الألبان في كوسوفو، بل بالعكس من ذلك تجعل من استقلال الإقليم أمراً مبرراً ومحتوماً. فبعد أن راهنت صربيا على الورقة القومية وكادت تحرق نفسها، لم يعد من سبيل آخر سوى ترك الألبان يقررون مصيرهم ويختارون طريقهم بعدما استحال على المجتمع الدولي حل الخلاقات المستحكمة بينهما. ولن يؤدي تأخير استقلال كوسوفو والمماطلة في مواجهة هذا الاستحقاق المهم، سوى الإضرار بالمنطقة وزعزعة استقرارها. وما أن تُعلن كوسوفو استقلالها، كما هو مقرر يوم الأحد المقبل، حتى تسارع القوى الرئيسية إلى الاعتراف بالدولة الجديدة، بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. كما سيلتقي يوم الاثنين القادم وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذين من المرجح أن يوقعوا على ببيان يقرون فيه باستيفاء شروط الاعتراف الدولي، وتعترف فيه أغلبية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين بقيام دولة كوسوفو. ولن يمنع تحفظ بعض البلدان الأوروبية من إعلان قيام الدولة الجديدة بسبب التطلعات الانفصالية لدى بعض الأقليات فيها، كما هو الشأن بالنسبة لإسبانيا ورومانيا وسلوفاكيا واليونان وبلغاريا، من الحصول على التوافق. وبالطبع سيكون الإجماع الأوروبي والدولي أفضل، لكن التوافق بالأغلبية يكفي. وبفضل الجهود التي بذلها "وولفجانج إيشينر"، السفير الألماني لدى بريطانيا، انضمت هذه الأخيرة إلى الموقف الأوروبي والأميركي، وهو التوافق الذي نادراً ما يجمع القوى الكبرى حول موضوع بعينه. وفي هذا الإطار علق "فرانك ويزنر"، السفير الأميركي السابق لدى الهند، والذي عمل مع السفير الألماني لتقريب المواقف بين الصرب وقادة كوسوفو دون جدوى، قائلاً "إن التوافق الحالي بشأن كوسوفو يمثل نموذجاً للعمل المشترك الذي يتعين أن يسود بين أوروبا والولايات المتحدة"، مضيفاً أن "بلغراد لم تقم بأي مجهود يذكر للتواصل مع ألبان كوسوفو". لكن التحاور مع قادة كوسوفو وتفهم مطالبهم لم يكن أبداً حاضراً ضمن الأجندة الصربية طيلة العقود الأخيرة منذ أن ركب الديكتاتور الصربي "سلوبودان ميلوسوفيتش" موجة التطرف القومي في 24 أبريل 1987 عندما ذهب إلى كوسوفو ليعلن بأن "أسلاف الصرب سيدنسون" إذا تُرك الأمر للألبان لتقرير مصيرهم. وقد كانت مساعي "ميلوسوفيتش" الرامية إلى إخماد التطلعات الانفصالية لألبان كوسوفو، جزءاً من حلمه القائم على تحويل يوغوسلافيا إلى "صربوسلافيا". بيد أن أحلامه الواهية ومعاملته الفظة ما كان لها أن تستمر في ظل تمرد الشعوب الذي أفضى في النهاية إلى استقلال الجمهوريات المكونة ليوغسلافيا السابقة، من كرواتيا إلى مقدونيا. وهاهي كوسوفو تلحق بالجمهوريات المستقلة وتحقق تطلعاتها، رغم كل الاستياء والتذمر الذي قد تعبر عنه صربيا. والحقيقة أن ألبان كوسوفو الذين يشكلون 95% من سكان الإقليم البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة، لا يمكنهم التصالح مع صربيا التي قمعتهم بعنف وهجّرتهم من ديارهم وسامتهم سوء العذاب الذي لم يتوقف إلا بعد تدخل حلف شمال الأطلسي عام 1999. غير أن الصرب في بحثهم عن نوع من التوازن الأخلاقي، يجادلون بأن أياً من "جيش تحرير كوسوفو" أو الجيش البوسني الناشئ، لم يكن ملاكاً أو حملاً وديعاً، وذلك بعدما استكمل الصرب جرائم الإبادة ضد المسلمين في عام 1992. ومع ذلك كان الاضطهاد الصربي للألبان قاسياً ومروعاً لدرجة لم يعد معها ممكناً منع تمرد الألبان ومطالبتهم بحقوقهم القومية. والسؤال اليوم هو: كيف سيأتي رد فعل صربيا على إعلان استقلال كوسوفو؟ "فوجيسلاف كوشتونيكا"، رئيس الوزراء الصربي القومي، يقول إنه "لن يسمح لهذا الحدث أن يستمر لدقيقة واحدة". هذه اللهجة المتشددة كانت دائماً جزءاً من الخطاب الصربي تجاه كوسوفو منذ أن وضع قرار الأمم المتحدة رقم 1244 الصادر عام 1999 كوسوفو تحت الإشراف الأممي ومنحها حكماً ذاتياً قضى بعدم توسيعه إلا بعد التوصل إلى "تسوية نهائية"، لكن بلغراد رفضت أية تسوية ممكنة. والمتوقع أن تتسبب صربيا في بعض المشاكل الطفيفة من دون أن تتطور إلى أعمال عنف، أو قطع للكهرباء عن كوسوفو. وقد يضطر 120 ألف صربي يعيشون في كوسوفو إلى الرحيل، فضلاً عن احتمال انفصال جيوب صربية في شمال الإقليم. غير أنه بصفة عامة لن ينجم عن قرار استقلال كوسوفو ما قد يحول دون استكماله، لاسيما في ظل التفهم الدولي لاستقلال الإقليم. يضاف إلى ذلك أن وجود رئيس معتدل وموال للغرب، هو "بوريس تاديتش" الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة، سيساهم في لجم الأصوات المتطرفة داخل البلاد، دون أن ننسى الضغوط الأوروبية على الألبان بعدم تصعيد الموقف، أو القيام بأعمال استفزازية. وبالطبع ستدعو روسيا إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن تعلن فيه احتجاجها على استقلال كوسوفو وتسجل معارضتها لهذه الخطوة، لكن موسكو وهي تقف إلى جانب صربيا تراهن على الحصان الخاسر. وفي هذه الحالة يحق لأوروبا الثبات على موقفها المساند لاستقلال كوسوفو وعدم الخضوع للضغوط الروسية، وهو ما سيقود في النهاية إلى قبول صربيا بالأمر الواقع، مفضلة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وعلى روسيا أن تعرف جيداً أن كوسوفو ليست "أبخازيا" أو "أوسيتيا الجنوبية"، بل هي جزء من يوغوسلافيا التي تفككت منذ مدة ولم يعد لها أثر على الخريطة العالمية؛ وهو إقليم بقي لثماني سنوات تحت الإشراف الأممي بانتظار تسوية باتت مستحيلة مع صربيا. والأهم من ذلك أن "ميلوسيفيتش" حظي بفرصته عندما استخدم ورقة القومية المتطرفة، ففشل في ذلك وتهاوت أحلامه. ــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"