رجل الإعلام الاقتحامي هذا، ما كان قادراً على اقتحام قلاعه سوى الموت! و"مشكلتنا" مع الموت أنه، مثل كل الحقائق شديدة المرارة، لا مفر من الاعتراف بجبروته الذي ما من قادر عليه سوى القادر. و"الموت حق" لا مهرب من استحقاقه لحظة الاستحقاق دون تقديم أو تأخير. ورغم ذلك، لا أحد يستطيع أن يمنعنا من الحزن وإراقة الدموع على الأحبة، واليوم قد "جاء الدور" على شريف! هذا الرائع الذي رحل عن دنيانا، ولم يعد هناك أمر شخصي يرجوه المرء منه، إلا أن يقول فيه كلمات حق. فهو قد صعد سلم العلم والمكانة درجة درجة، وكأي خريج جديد بدأ. لكنه سرعان ما وصل قمة السلم بحق وجدارة بعد أن عمل بجد واجتهاد. لم يركن ويستسلم للغرور بل بقي إنساناً عادياً، دافئاً (ومازحاً في الغالب)، فتأسرك حرارة مقابلته حتى مع أبسط الناس. ومع أنه من النادر أن يجمع شخص واحد التفوق والبراعة في الأداء المهني مع شمائل في الجانب الإنساني قوامها قدر كبير (وسبحان الكامل) من الأدب واللياقة والتواضع، فإن شريف العلمي كان أحد هؤلاء. فقد جمعت شخصيته كل ذلك في معادلة صعبة عزيزة. وحقاً، لا يمكن أن يغيب عن الذاكرة أسلوبه الراقي، ووجهه الطلق المشرق، وابتسامته الساحرة غالباً... والساخرة كثيراً. لقد ولد هذا الإعلامي الاقتحامي في يافا عام 1931. درس المرحلة الابتدائية وجزءاً من الثانوية في فلسطين، وأكمل –إثر النكبة- دراسته الثانوية في لبنان، قبل التحاقه بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الإدارة العامة ليتخرج عام 1953. وبعد ذلك مباشرة، التحق بمحطة "الشرق الأدنى للإذاعة العربية" في مدينة ليماسول القبرصية، حيث نجح في عمله كمترجم، لكنه تجلى في تنفيذ فكرة كانت تراوده تعنى بالثقافة في إطار ترفيهي راقٍ. وفعلاً، انطلق ببرنامجه الذي سماه في ذلك الوقت (فكر وامرح). ومع بدء العدوان الثلاثي على مصر 29 أكتوبر 1956، قدم مع زملائه العرب استقالة جماعية من الإذاعة الممولة من بريطانيا، وذلك تضامناً مع الشعب المصري. وبعد عناء "بطالة" وجيزة، التحق بالإذاعة السعودية في جدة، ثم عمل في بنك القاهرة كمساعد للمدير. غير أن العمل البنكي لم يرقْ له ولم يُرضِ هوايتَه وسرعان ما استقال. وفي عام 1960، انضم إلى مجموعة من الإذاعيين القُدامى للمساهمة في تطوير إذاعة الكويت، حيث أعاد فيها تقديم برنامجه الثقافي "فكر وامرح"، فنال البرنامج العتيد النجاح مجدداً. وفي نقلة نوعية، وإبان تأسيس "تلفزيون الكويت"، تلقى "شريف" تدريباً على الأعمال التلفزيونية بين عامي 1962 و1964 في لندن، الأمر الذي مكنه من تولي إدارة البرامج المنوعة في "تلفزيون الكويت". ومنذئذ، عرفته أجيال على مر السنين نموذجاً للأديب والخبير المتميز في مجاله، والإنسان صاحب الرؤية الشاملة للأمور المهنية والإنسانية على حد سواء. وقد طور "شريف" فكرة برنامج المسابقات لتلائم شاشة التلفاز وأطلق عليها اسم "سين/ جيم". وبالفعل، بدأ بث البرنامج عام 1962 وسرعان ما حظي بنجاح كبير، متنقلا في تقديمه، عبر شاشات التلفاز العربية، حتى عام 1996. وفي المحصلة، جمع مواد برامجه في كتاب من عشرين جزءا عنوانه "سين/ جيم"، وقد لقي رواجاً واسعاً في العالم العربي، ويعتمد عليه –حتى اليوم- الكثيرون من معدي البرامج التلفزيونية والإذاعية. ولأنه انشغل دوماً بتقديم المعلومة الثقافية والمعلومة العامة في إطار متجدد، فقد باشر بإنتاج برامجه بأسلوب مبتكر. وعلى قاعدة تقديم هذه المعلومات، عبر مشاهد درامية ممثلة بصورة مشوقة وطريفة، أنتج الإعلامي المتجدد "شريف" أربعة برامج تباعاً (من 30 حلقة لكل منها) هي: "كيف وأخواتها"، "مختصر مفيد"، "من الرأس إلى القدم"، و"سألوني". لقد كان شريف العلمي إنساناً شغوفاً بهم تثقيف الوطن العربي، مثلما كان مشغولاً بالهم العربي الثقافي نفسه. وإذ كتب أكثر من عشرين كتاباً بلغة عربية سهلة سلسة للقارئ العادي، فإنه كان في الوقت ذاته أكاديمياً من النوع الثقيل. ولقد جمع كماً هائلاً من الكتب والمراجع عبر أكثر من خمسين عاماً تبرع بها إلى جامعة البتراء الأردنية. أما ما صلح منها للصغار، فتبرع به إلى أطفال مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين قرب عمان. لقد كان العلمي حريصاً على إعداد البرنامج وتقديمه بنفسه، مثلما حرص على مشاركة جمهوره الحوار من خلال طرح الأسئلة وطلب إجابات. وفي إحدى الحلقات، تلقى 450 ألف رسالة من مشاهدي التلفاز، ما يؤكد إبداع الفقيد وانتشار عمله، خاصة بتقديم برنامج تداخلت فيه الثقافة والإثارة والمتعة والتسلية. لذلك، كنا نتابعه وكأننا أمام بحر زاخر ملأ المسامع علماً، وعمر القلوب أدباً، وضرب للناس مثلاً في زمن قلَّ فيه الراسخون في العلم وكثر الجاهلون الذين يتكلمون فيما لا يعلمون. وفي هذا السياق، نقول لأنفسنا وللإعلام العربي: إن عملاقاً بحجم الأستاذ شريف العلمي لم ينل حظه من التغطية الإعلامية الهادفة. فالصحف لم تتحدث عنه كما يجب. كذلك، فإنه لم يذكر بما يستحق إلا في عدد قليل من المطبوعات ومحطات التلفاز العربية، سواء أكانت قنوات عامة حكومية أم قنوات فضائية خاصة. وفي ظني أن تكريم شريف العلمي، مهم وضروري نظراً لما قدمه من إسهامات في مجال الإعلام العربي أصبحت قواعدَ وأسساً يُرتكَزُ عليها، ناهيك عما لعبه من دور بارز في تطوير جوهر الإعلام تاركاً بصماته الواضحة على مسيرة الإعلام العربي المعاصر. هذا ما وددت قوله عنه! أما ما أريد قوله للراحل "شريف": لقد استرحتَ حقاً! وهنا، لا أتحدث عن الاستراحة من المرض الذي نهش جسدك فحسب، بل أيضاً عن الاستراحة من رؤيتك الوطن المنهوش في محنته المتزايدة. وحسبي القول، مع الزميل أحمد حسن الزعبي: يقولون في "فلسطين" هناك أزمة مقابر. ترى كيف يكمل المرء ما تبقى من نضاله من غير قبر يحترم نضاله... من غير وطن مختصر بحجم تابوت... يكون فيه الشعب ويكون فيه الزعيم؟ يقولون في "فلسطين" هناك أزمة "مدامع". الحزن متجمد في القلوب، وحبات الدمع لا تمر من نقاط التفتيش. والآهات موقوفة على آخر معبر. في "فلسطين" شهيد ينزف دماً أخضر بلون الزيت، وهناك زيتونة تعتصر زيتاً أحمر بلون الدم. يا أم الصبر، يا "فلسطين"، أيتها المضرجة برائحة ترابك، بعطر صمتك. ضعي أبناءك على خصرك وابذريهم في الأرض وامضِ. غداً سيكبرون. العشرة سينبتون مئة، والمئة سينبتون ألفاً، والألف سينبتون أمة، والأمة ستلد وطناً. يا أمَّ الصبر، يا "فلسطين"، ابذريهم في الأرض... فالغيث قريب".