أمر مفجع ألا يتعلم العرب شيئاً من تاريخهم الحديث قبل القديم، وكان يكفي الأمة ما درست من تاريخ داحس والغبراء كي تتجنب الحروب الأهلية التي كررها العرب مرات في تاريخهم رغم أنهم يحفظون قول طرفة (وظلم ذوي القربى أشد مرارة)، وأحسب أن من حق أهل غزة أن يشعروا بظلم أهلهم لهم، وهم يستقبلون ظلم الإسرائيليين بروح مواجهة شجاعة، أما ظلم أهلهم الأقربين لهم، وبرود العرب في معالجة مأساتهم فهو أمر مريع فظيع. لقد باتت أخبار القتل والاغتيال والحصار التي يتعرض لها أهلنا في غزة أنباء عادية يتلقاها العرب من الصحف والفضائيات ومن أجهزة الهاتف المحمول فيمطُّون شفاههم ويحوْقلون، في تعاطف باهت كأن الخبر يحكي عن حدث مفجع في القطب الشمالي، بينما غزة في القلب من الأمة، وحين تشتعل النار في أرجائها فإن ألسنة النار تمتد إلى كل الجوار، وأما في لبنان فقد بت أكاد لا أصدق ما يحدث وما يؤكد بأن هناك حقاً من يريدون إعادة لبنان إلى لهيب الحرب الأهلية التي بات المراقبون والمتابعون ينذرون باقتراب اشتعالها إذا ما أصر الموقدون على إضرامها. وقد راعني أن أجد اتهامات حادة لسوريا من سياسيين محترفين في لبنان وهم من يعرفون أكثر من سواهم أن سوريا ضحت بعدد كبير من أبنائها الشباب حين دخلت إلى لبنان بطلب لبناني وعربي كي تطفئ نار الحرب الأهلية، ولا يعنيني هنا أن أرد على سيل الاتهامات التي تكال لسوريا صباح مساء، فقد باتت هذه الاتهامات تدعو إلى السخرية المرة، واليوم تعلق على رقبة سوريا مسؤولية عدم وصول اللبنانيين إلى حل توافقي، كأن سوريا هي التي تحكم لبنان وتدير شؤونه، أو كأن المعارضة اللبنانية على اختلاف أطيافها تمثيلية سورية، مع أن من أبرز أقطابها من لم يكن على وفاق مع سوريا حين كان بعض الآخرين أقرب الناس إليها. والمفارقة المفجعة هي تجرؤ بعض سماسرة الحروب على استعادة ذات اللغة التي دمرت لبنان ربع قرن، ولقد أحزنني أن أقرأ في بعض التصريحات من يحذر من (المخطط السوري الإيراني) في الساحة اللبنانية، وهو يعرف أن هذا الوهم يعيشه الإسرائيليون وبعض الأميركان وليس اللبنانيون، بل ثمة من يهدد بحرق الأخضر واليابس، ومن يقول إن (تصرفات المعارضة تأكيد سوري على التعطيل). والأخطر من ذلك قول أحد الحكماء الكبار في لبنان (إن سوريا تسعى إلى تفتيت لبنان) ولست معنياً هنا بتفنيد هذه الاتهامات التي اعتاد عليها شعبنا، وليست لها أية مصداقية عملية فقد حرصت سوريا على عدم الخوض في سجال يهدم التوافق الذي نسعى إليه، لكنني بت حقاً أحس بفداحة ظلم ذوي القربى، فهؤلاء الذين يردحون لسوريا ويكيلون لها الاتهامات الشنيعة كانوا من أكثر الناس استفادة من حضورها، وبت أتساءل: هل هؤلاء الذين يطلقون هذه التصريحات المستفزة مقتنعون بما يقولون، وهم من كنا نظنهم عرباً قوميين تهمهم مصالح بلدهم وأمتهم ولديهم مشروع وطني وقومي تحرري؟ وكنت دائماً أذكر نصائح الحكماء: (إذا خاصمت أحداً فدع للصلح مطرحاً، ولا تقطع كل الجسور)، فهل أعلن هؤلاء الساعون إلى الحرب أن خيارهم الاستراتيجي هو الالتحاق النهائي بالمشروع الصهيوني الأميركي؟ إن مطلبهم الأول هو إنهاء سلاح المقاومة وبالتحديد سلاح "حزب الله"، وهذا مطلب إسرائيلي معلن، ومن أجله خاضت إسرائيل حرباً خاسرة في يوليو 2006، كما أنهم يريدون قطع الصلات مع سوريا وهذا مطلب إسرائيلي معلن أيضاً، ويريدون قطيعة مع إيران وهذا مطلب إسرائيلي بامتياز، ويريدون اللحاق بالموكب الأميركي متخلين عن عروبة لبنان، منقادين إلى تحالفات تسعى إلى إنهاء الحضور العربي ورسم خريطة جديدة للمنطقة على أسس إثنية وعرقية ومذهبية وطائفية، كما يسعون إلى توطين الفلسطينيين لتقديم مخرج لإسرائيل من استحقاق عودة اللاجئين، ولم يعد سراً هذا التطابق بين أهداف من يقرعون أجراس الحرب الأهلية في لبنان ومن يهددون بها ويمهدون لها مع أهداف إسرائيل، ولو تأمل البسطاء من الماضين في الركاب لعادوا إلى الوعي إن كانوا واهمين، وسيكون مخزياً أن تأخذ بعض السياسيين عزة بالإثم، وأن يستقووا على أهلهم بما تعدهم به إسرائيل وأميركا من دعم إن هم خاضوا حرباً أهلية ستكون ضد المقاومة أولاً، وستجعل الوطنيين الشرفاء مضطرين للدفاع عن أنفسهم وعن مستقبل لبنان وعروبته. إنني أدرك أن الاتهامات التي تكال لسوريا يرفضها وجدان أهلنا في لبنان قبل أن يرفضها شعبنا في سوريا وهو يعيش في عقله وقلبه ووجدانه مأساة لبنان، ويكن لشعب لبنان بكل شرائحه وأطيافه وتنويعاته كل المحبة والإخاء، وقد حرصت سوريا على أن تكون على مسافة واحدة من كل الأطراف، وأعلنت وقوفها مع التوافق اللبناني دون أي تدخل إلا حين يطلب منها التوسط، وقد طلب منها عربياً ودولياً فقدمت دورها بإيجابية، وقد عملت بجد مع الفرنسيين حين طلبوا ذلك. لكن مطالب الآخرين تتجاوز ثوابت الأمة، وتخطط لإيقاع لبنان في هوة المشروع الصهيوني، وهناك من يخطط لحرب كبرى في المنطقة، ولعله يريد أن تكون بوابتها لبنان، فإسرائيل تحرص على أن تسترد هيبتها، ولكنها لا تستطيع شن حرب جديدة ضد المقاومة إلا إذا ضمنت خواء الداخل الذي احتوى المقاومة، ولذلك هي تبحث عن وكلاء يقومون بالمهمة نيابة عنها. ونحن في سوريا أشد الناس حرصاً على ألا تشتعل نار على أبواب بيتنا، ولسنا بحاجة لأن نذكر بأن سوريا ستكون ثاني المتضررين بعد لبنان في أي مصاب يحل به، والمؤسف أن قوة الضخ الإعلامي ضد سوريا قد شوشت بعض الأشقاء العرب الذين لا يعرفون حقائق ما يجري، وبعضهم يعتمد على ما يقرأ أو يتابع في بعض أجهزة الإعلام العربية التي بات بعضها يتماهى مع مضمون ما يضخ الإعلام الإسرائيلي (وأنا أقارن يومياً ما يكتب في الصحافة الإسرائيلية مع بعض ما يكتب في الصحافة العربية فأجد التماهي والتطابق واضحاً ومن يريد أن يتأكد بوسعه أن يجري هذه المقارنة يومياً). وقد قابلت بعضاً من المثقفين العرب فوجدت لديهم فهماً قاصراً لما يحدث، فهناك من غير المتابعين بدقة من يصدق أن هدف سوريا هو إحداث فوضى في لبنان لأنها تخاف من المحكمة الدولية، وهو يجهل أن المحققين الدوليين لم يوجهوا أية تهمة قانونية لسوريا، وهناك من يظن أن "حزب الله" هو منظمة سورية، وأنه يتلقى تعليماته من دمشق، ولا يفهم أن "حزب الله" هو حزب لبناني صرف، نشأ لمقاومة احتلال إسرائيل لجنوب لبنان، وكان من الطبيعي أن تدعمه سوريا، ولو أنها فعلت خلاف ذلك لاتهمت بالعمالة لإسرائيل، لأن المتضرر الوحيد من قوة "حزب الله" هو إسرائيل التي هزمتها المقاومة اللبنانية مرتين خلال ست سنين. وهناك من يظن أن ثمة تحالفاً سرياً بين سوريا وإيران، ولا يفهم أن سوريا لا تقيم تحالفات إلا مع أشقائها العرب، ولكن من الطبيعي أن تكون لسوريا علاقات متينة وقوية جداً مع إيران التي تشكل سنداً قوياً للأمة العربية في صراعها مع إسرائيل، وسيكون الوقوف مع إسرائيل ضد إيران مخزياً، لكن هذه العلاقات بين سوريا وإيران تقوم على السيادة والتعاون والاحترام المتبادل ولكن لكل بلد رؤيته في كثير من الشؤون، ولا أحد يعطي تعليمات لأحد، بما في ذلك "حزب الله" الذي لا يتلقى تعليمات من أحد، لأن من يضع روحه على راحته لا يضحي باستقلال قناعته. إننا نأمل أن يتوقف دعاة الحرب عن قرع أجراسها، وأن يتذكروا فواجعها عليهم وعلى شعبهم، ورغم أنني لا أحب الخوض في الشأن اللبناني الداخلي وكنت أتجنب الحديث فيه، إلا أن إحساسي من موقع المواطن بفداحة ظلم ذوي القربى لسوريا وتحميلها المسؤوليات جزافاً، دعاني إلى التعبير عن القلق من الفاجع المقبل وهو يوشك أن يقع، وأرجو ألا يقع، وأن تتدارك الأمة الموقف وتبذل كل ما بوسعها لتجنيب لبنان والأمة كلها شر ما تخطط له إسرائيل.