نحن نعيش في عالم سريع التغير إلى درجة أن ما كتبه الباحث في موضوع محدد منذ عدة سنوات، سرعان ما يصبح -تحت تأثير التغيرات العالمية المتلاحقة- مادة قديمة لا تصلح لمعالجة الموضوع اليوم. والدليل على ذلك أنه سبق لي أن نشرت سلسلة مقالات "عن مستقبل البحث العلمي في الوطن العربي" ضمَّنتها بعد ذلك كتابي "الزمن العربي والمستقبل العالمي"، الذي نشرته دار المستقبل العربي في القاهرة 1989، وحين عدت إلى هذه الدراسة وأنا بصدد كتابة هذه السلسلة الجديدة عن مستقبل المجتمع العربي، اكتشفت أنها في حاجة إلى إنشاء جديد، لأن المعلومات وحتى التحليلات الواردة فيها قد تقادم عليها العهد! لقد بدأت دراستي السابقة بفقرة أساسية نصها أنه "عادة حين يستخدم مفهوم الأمن القومي فإنه تطوف بالذهن الأبعاد الاستراتيجية والعسكرية التي تتعلق بمواجهة التهديد الموجه لدولة ما، والطرق الفعالة لمواجهته. غير أن هذا المفهوم الضيق للأمن القومي اتسع في العقود الأخيرة، لكي يشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع. ولعل أبلغ تعبير عن هذا الاتجاه في شمول مفهوم الأمن القومي ما ذهب إليه "ماكنمارا" وزير الدفاع الأميركي الأسبق، من أن "الأمن القومي هو التنمية". وما ذكرته مؤداه أن علاقة الأمن القومي بالتنمية بالغة الأهمية. غير أن مفهوم الأمن القومي التقليدي الذي تشير إليه عبارتنا السابقة سقط تماماً، وحل محله "نموذج جديد للأمن القومي" نتيجة لثورة الاتصالات الكبرى، وفي قلبها الأقمار الاصطناعية والبث التليفزيوني الفضائي وشبكة الإنترنت! لم يعد الأمن القومي مسألة تضمنها الطائرات والدبابات وفرق المشاة في ضوء مراقبة الحدود وحراستها، تحسباً لأي عدوان من قبل الدول التي تمثل مصادر التهديد. ذلك لأنه -نتيجة لثورة الاتصالات الكبرى- برز مفهومان جديدان: الحرب الفضائية Cyber war وحرب الشبكات Network. والحروب الفضائية تقوم على أساس التطورات التكنولوجية الهائلة التي تمت في مجال الصواريخ بعيدة المدى، والتي أصبح من الممكن توجيهها بدقة بالغة إلى أهدافها المحددة من على بُعد ثلاثة آلاف كيلومتر، كما حدث في الغزو العسكري الأميركي للعراق، حيث أطلقت صواريخ كروز ضد أهداف في بغداد من هذه المسافة. غير أن الحروب الفضائية تشمل أيضاً قدرة الدولة المتقدمة عسكرياً على شل رادارات الخصم تماماً في الدقائق الأولى للمعركة بالإضافة إلى تدمير شبكة اتصالاته، وهكذا تفقد القيادة السياسية اتصالها مع القيادة العسكرية، وتفقد القيادة العسكرية نفسها الاتصال بفرق الجيش المختلفة، ويتحول مسرح الحرب إلى فوضى عارمة تتيح للغزاة إيقاع الهزيمة الساحقة بالخصم، بأقل التكاليف البشرية الممكنة وبأسرع وقت ممكن. أما حرب الشبكات فهي تشير إلى استخدام تجار السلاح وعصابات المخدرات والجماعات الإرهابية شبكة الإنترنت في نقل المعلومات وتداول الخطط وتدبير المؤامرات بغير أن يكشفها أحد، لأنها تستخدم عادة شفرات عصية على التفكيك. والمقارنة بين الحرب الفضائية وحرب الشبكات يمكن أن تكشف مأزق الدولة العظمى المتفوقة عسكرياً. ويكفي في ذلك أن نشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية التي هي أقوى دولة عظمى في العالم حالياً، وقعت فريسة سهلة لحرب الشبكات في الأحداث الإرهابية التي وجهت لمراكز القوة المالية والعسكرية والسياسية فيها. فقد استطاعت مجموعة محدودة من الإرهابيين العرب -كما تقرر الشهادة الرسمية الأميركية- الاستخدام الحاذق لشبكة الإنترنت في نقل المعلومات من قارة إلى قارة، وفي إعداد خطط الهجوم، وفي إعطاء التعليمات للقواعد، وفي تحديد ساعة الصفر، بصورة عجزت أقوى دولة عسكرية في العالم عن ملاحقتها وتتبعها، والعمل على إجهاضها. ومعنى ذلك أنه إذا كان الأقوياء عسكرياً يستطيعون ممارسة الحرب الفضائية ويسحقون الدول الضعيفة، فإن الضعفاء عسكرياً يستطيعون ممارسة حرب الشبكات وإنزال الهزيمة الساحقة بالأقوياء! إن ما حدث في التغير الجوهري في مفهوم وممارسات الأمن القومي يحتاج إلى تفكير عميق في البلاد العربية، ينصبُّ على الكيفية التي يمكن بها توظيف البحث العلمي لأغراض الأمن القومي. وفي هذا المجال لابد أولاً من ترسيخ دعائم مجتمع المعلومات العالمي في المقام الأول. وهذا المجتمع الذي أصبح مسيطراً على حركة التدفقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية في العالم ليس مرادفاً لتكنولوجيا المعلومات التي أدخلها عديد من البلاد العربية، وبعضها لم يكتفِ باستيراد الأجهزة، ولكنه نجح في توظيفها من خلال التصنيع ووضع البرمجيات وتربية القيادات والكوادر الفنية القادرة على التعامل بلغة العصر. وذلك لأن مجتمع المعلومات العالمي نموذج حضاري جديد يعبر عن الانتقال من المجتمع الصناعي إلى عصر الاتصالات الكونية. ولذلك لا يمكن أن يكتمل مجتمع المعلومات العالمي بغير ديمقراطية، وبدون شفافية، وبغير حرية تداول المعلومات، وحق كل مواطن في الحصول على المعلومة فوراً وبالمجان. في ضوء ذلك يمكن القول إن السياسة العلمية الرشيدة في البلاد العربية ينبغي أن تركز على الاستثمار في مجال الأمن القومي من خلال التركيز على الصناعات العسكرية المتعلقة بالحروب الفضائية. وقد فعلت إسرائيل ذلك تماماً ليس في مجرد تخصيص نسبة عالية من الدخل القومي للبحث العلمي، وليس عن طريق التركيز على التكنولوجيا الرفيعة، والصواريخ البعيدة المدى، والصواريخ المضادة للصواريخ. وقد سدت النقص في معرفتها العلمية من خلال الشراكة الوثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية في هذه المجالات، بالإضافة إلى انضمامها لبرامج أبحاث الفضاء الأميركية، توقعاً منها بأن القرن الحادي والعشرين سيشهد إنجازات بارزة في مجال غزو الفضاء، واستخدامه في الحروب الفضائية. إن الدول العربية وخصوصاً الدول الخليجية تدفع سنوياً بلايين الدولارات في شراء أسلحة متقدمة من الولايات المتحدة الأميركية أساساً ومن فرنسا ومن إنجلترا. غير أن هذه الخطة لا تضمن أبداً تحقيق الاستفادة المثلى من هذه الأسلحة. ولذلك يمكن القول إنه بغير توطين التكنولوجيا العسكرية الفائقة التقدم من خلال سياسة علمية متكاملة تركز على تربية وتنشئة الكوادر والقيادات العلمية القادرة على البحث والاختراع والإبداع، فإن الأمن القومي العربي سيظل مهدداً تهديداً خطيراً، نتيجة التعثر في سباق امتلاك أدوات الحروب الفضائية. ومن ناحية أخرى إذا كنا قررنا في البداية أن مفهوم الأمن القومي اتسع في السنوات الأخيرة لكي يشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع، فإن هذا الاعتبار يفرض على المجتمع العربي أولاً صياغة رؤية استراتيجية قادرة على رسم صورة المستقبل العربي في العشرين عاماً القادمة. وهذه الرؤية الاستراتيجية لابد لها أن تضع خطة للتنمية المستدامة التي ترعى حقوق الأجيال القادمة. وهذه الخطة لابد لها أيضاً أن تقوم على أساس الارتقاء بالوضع الاقتصادي من زاوية الاستثمار الأمثل وفق أولويات محددة، وذلك في ضوء تحقيق التراكم من ناحية وتحقيق العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. ولن يتحقق ذلك إلا بالتركيز على البحث العلمي وربطه بالتنمية. فذلك جدير برفع المستوى وحل المشكلات المعلقة، والإسهام في ترفيه مستوى القوى البشرية في المجتمع، ورفع معدلات الوعي الاجتماعي العام، والقضاء التام على الأمية المرتفعة، التي تمثل عائقاً أساسياً لاكتمال مجتمع المعلومات العالمي، والسير قدماً في سبيل ترسيخ قواعد مجتمع المعرفة في عصر العولمة، الذي سيصبح فيه معيار التقدم هو المجتمعات القادرة على إنتاج المعرفة.