جدلية الثقافة العربية الإسلامية مع الحداثة، مر عليها أكثر من قرنين دون أن تستقر على حال. فلازال النقاش محتدماً حول كثير من تفاصيل الموضوع. وما زاد من غموض المسألة أن كلمة "الحداثة" طرحت على عموميتها دون أي وصف يحدد إطارها ومحتوياتها. ذلك أن كلمة "الحداثة" تشير، كما يقول المفكر محمد عابد الجابري، إلى حالة معينة خاصة بأوروبا من جهة وهي لا تجد مرجعيتها في ماضينا وتراثنا من جهة أخرى. ومن هنا إصرار البعض على استعمال كلمة تحديث بدلاً من كلمة حداثة. لكن الإنسان يعجب من عدم التفتيش عن حداثة عربية ذاتية خاصة بنا طالما أن الجميع يعترف بأن في العالم المعاصر حداثات عدة حتى ولو كانت الحداثة الغربية هي الحداثة المهيمنة والتي تسعى إلى أن تكون الحداثة العولمية الأحادية. فإذا اتفقنا على أنه آن الأوان للحديث عن حداثة عربية نريد أن نسبح في تيارها، بعيداً عن جدليات الحداثة الغربية وتعقيداتها وخصوصياتها، بل ومراجعاتها الحالية من قبل مفكري تيار ما بعد الحداثة، فمن الواجب أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة الضرورية لتوضيح مسار الحداثة العربية المنشودة. فأولاً، هل وصل المشروع النهضوي الثقافي العربي الإسلامي الذي سعى إلى مراجعة التراث العربي الإسلامي مراجعة تحليلية نقدية من أجل تجاوزه، والذي بدأ منذ حوالي قرنين بجهود إصلاحيين من أمثال الشيخ محمد عبده والطهطاوي والكواكبي وغيرهم وانتهى إلى محاولات جديدة من قبل مفكرين من أمثال محمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي وغيرهم... هل وصل هذا المشروع إلى نتائج معقولة ومقبولة تسمح للمجتمع العربي أن يؤسس عليها انطلاقة واسعة وعميقة نحو بناء حداثة عربية لها مرجعيتها ومقوماتها الفكرية ومنهجيتها الواقعية لتطبيقها؟ وثانياً، هل في قدرة تلك المراجعة وقدرة القيادات الفكرية العربية أن تشير بوضوح مقنع إلى قيم ومرتكزات وممارسات الحداثات الأخرى، غربية وغير غربية، والتي يجب الاستفادة منها وغرسها وتجذيرها وتبيئتها في التربة الثقافية العربية؟ بمعنى آخر، هل تستطيع النخب الثقافية والسياسية المتحالفة معها إجراء عملية انتقاء وقبول ورفض مما تعرضه الحداثات الأخرى، وذلك من أجل إدخاله في نسيج الحداثة العربية من جهة وبشرط أن نتجنب السقوط في أفخاخ الحداثة العولمية التي يمكن أن تجعل حداثتنا حداثة هامشية مقموعة بل ومسخاً ليس له طعم ولا مذاق؟ وثالثاً، هل نستطيع بناء حداثة عربية جامعة يتداخل فيها الفكر مع السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والفن، بحيث ننتهي بتيار عريض عميق ومتجذر؟ ورابعاً، هل يمكن بناء حداثة ثقافية عربية، تكون مدخلاً، كما ذكرنا، لبناء الحداثات العربية الأخرى في حقول السياسة والاقتصاد وغيرها، إذا لم تحل إشكالات وعاء الفكر والثقافة العربية وأعني به اللغة العربية؟ فإضافة إلى العقبات الضخمة التي تواجهها اللغة العربية كلغة تواصل هناك الأخطار الكارثية التي تواجهها كلغة ثقافة. إن خريجي المدارس والجامعات، خصوصاً في المؤسسات التعليمية الخاصة التي تنتشر في أرض العرب كالسرطان، وخصوصاً في بلدان الوفرة والرفاهية العربية، يتخرجون الآن بأعداد كبيرة وهم بالكاد يستطيعون استعمال لغتهم كأداة تحدث واستماع وقراءة وكتابة بالغة البساطة والمحدودية. أما قدراتهم على استعمال اللغة العربية في التواصل والتحاور والتفاعل مع موروث ونتاج الثقافة العربية، الفكري والأدبي والديني، فإنها قدرات محدودة للغاية. هؤلاء لن يستطيعوا قراءة وفهم القرآن وعلي بن أبي طالب والشافعي والمتنبي وطه حسين وعبدالله العروي وغيرهم. فلمن سنبني حداثة عربية، وأجيالنا الصاعدة في شتى الميادين، لن تفهم ما نقول؟ الحداثة العربية ستحتاج إلى نقاش طويل ومعمق للإجابة على هذه الأسئلة وعشرات غيرها. د. علي محمد فخرو