لا أجد عزاءً غير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مثلي ومثل الدنيا إلاّ كمثل راكب مال إلى ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها". هذا الحديث الشريف خير عزاء عن رحيل عالم النبات فخري البزّاز الذي قضى حياته مع الأشجار، يميل إلى ظلها وتميل إلى ظله، حتى راح وتركها في الأسبوع الماضي. تخرج البزّاز من جامعة بغداد قبل نحو نصف قرن، ونال الدكتوراه هو وزوجته "مآرب درويش بكري" من جامعة "إيلينوي" في الولايات المتحدة، وعادا للتدريس في جامعة بغداد. وفي عام 1966 غادرا بغداد للتدريس في "إيلينوي" التي تُعتبر من أهم مراكز البحوث الزراعية في الولايات المتحدة. وفي عام 1984 عرضت عليه جامعة "هارفارد" منصب أستاذ كرسي البيولوجيا الذي شغله طوال عشرين سنة الماضية. وعندما يتحدث البزّاز عن النباتات، يصغي له أعضاء الكونغرس الأميركي والبوندستاغ الألماني، الذين كانوا يستدعونه للشهادة في موضوع تغير المناخ العالمي. فالنباتات تشكل 98% من الكتلة الحية في الطبيعة، وتقوم بدور الرئة التي تحول دون تراكم غازات ثاني أوكسيد الكربون المنبعثة عن حرق الفحم والنفط والغاز في جو الكرة الأرضية، وما قد يترتب على ذلك من الاحترار العالمي، وتفاقم كوارث الفيضانات والجفاف وانهيار المناخ العالمي. ويفسر هذا تخصيص مبلغ مليوني دولار للموازنة السنوية لمختبره الشخصي في "هارفارد"، والدعم السخي لبرامجه البحثية من قبل "وزارة الطاقة" و"الصندوق القومي للعلوم" الممول الرئيسي للمشاريع العلمية في الولايات المتحدة. والبزّاز شقيق عبد الرحمن البزّاز، رئيس وزراء العراق الأسبق الذي ارتبطت باسمه آخر محاولة لإقامة حكم ليبرالي في ستينيات القرن الماضي، واعتُقل بعد استيلاء حزب "البعث" على السلطة عام 1968. ولم يغير هذا موقف فخري البزّاز الوطني من بلده، حيث رأس عام 1989 "مؤتمر المغتربين" في بغداد، ورفض جميع محاولات استخدامه لأغراض سياسية ضد وطنه الأم. وليس سهلاً في بلد كالعراق، معقد دينياً ومذهبياً وقومياً ولغوياً، التمييز بين ما يُسمى النظام والبلد والحكومة والدولة، فخطوطها المتقاطعة متداخلة ومدّوخة، وسلوكها خطر كالمشي بين الألغام. هنا كما يقول الأديب الفرنسي المشهور، دو سان أكزوبري، "بالقلب وحده يستطيع المرء أن يرى بشكل صحيح، فالشيء الجوهري لا يُرى بالعين المجردة". وهذا ما يميز البزّاز والعلماء العرب المغتربين المتعلقين بوطنهم، تعلّق الرضيع بأمه فترة الفطام: تعلُّقٌ مُمّض وموجعٌ للقلب. وقد تحطم قلبه فعلاً خلال حرب الخليج عام 1991. وبعد نحو أسبوع من تدمير معظم جسور العراق وهياكله الارتكازية كنتُ والبزّاز نتمشى في ساحة جامعة "هارفارد" المشهورة بالمارين من حاملي جوائز "نوبل"، وصبايا الجامعة الساحرات. كنا منتشين بالصباح الربيعي الطازج المشمس، وأجفلتني آهته الموحشة: "مُردونا"، وتعني باللهجة العراقية "سحقونا". بعد ذلك بأيام أصيب البزّاز بنوبة قلبية. وامتدّت الفترة الزمنية ما بين ربيع عام 1991 ووفاته الأسبوع الماضي، كوداع طويل لعقل علمي عربي باهر. والله وحده يعلم ما جرى له خلال سنوات قلّما شهد العالم مثيلاً لها في الوحشية والاستهتار. كان يزّم شفتيه ازدراءً بما يحدث، وهو عضو "الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم" التي تضم 160 فائزاً بجوائز "نوبل"، وأستاذ كرسي البيولوجيا في "هارفارد"، أغنى الجامعات العالمية وأحفلها بالصراعات. وكما أشاد العرب أجمل معالمهم الحضارية في الأندلس خلال فترة أفول نفوذهم، حقق البزّاز في سنوات الوداع منجزات علمية رائعة. فكتابه "النباتات في بيئة متغيّرة"، اعتبره الخبراء "جوهرة" حال صدوره بالإنجليزية عام 1996 عن دار نشر جامعة "كمبردج". جاء ذلك في عرض مجلة "علم النبات" الأميركية Annals of Anatomy حيث ذكر الأكاديمي "أي. آغنيو" أن أبحاث البزّاز عن الوراثة في النباتات كانت من المراجع الرئيسية التي استخدمها في التدريس على مدى ثلاثة عقود. وقال إن مؤلفاته تنم عن "شخص لم يساوره الخوف قطُّ من تناول مواضيع جديدة ضمن اختصاصه: كالتركيب الضوئي، والعلاقات المائية، والمورفولوجيا، وعلم الجينات، وغير ذلك". وبلغ عدد منشوراته العلمية 300 بحث، و18 فصل، و6 كتب. وغامر بترك العالم المألوف لعلوم النبات التقليدية، وخاض التجارب الجينية والفسيولوجية والطرق الجزئية، وحقق فتوحات علمية في التوليف بين الأفكار في ميادين بحثية مختلفة. ذكر ذلك "ستيوارد بيكيت"، مدير "مركز بالتيمور لدراسات البيئة" والذي قال: "ليس في العالم سوى القليلين ممن يضاهون البزّاز في الجمع بين البحوث المتداخلة". وتحول البزّاز إلى "بروفيسور طائر" تستضيفه الجامعات حول العالم، وتنتشر مختبراته وسط الحقول والغابات في الولايات المتحدة وبريطانيا والمكسيك وماليزيا. وتستقصي أبحاثه استجابة الأنواع الحية للاضطراب في مختلف البيئات. وتقيس التقنيات التي طوّرها التغيرات البيئية العالمية، وتختبر استراتيجيات النباتات في التكاثر والتوارث والمنافسة على الموارد. وتعاظم في سنوات الوداع شغف البزّاز بالعالم العربي، وازداد اهتمامه ببحث قضاياه الخاصة بالمياه والبيئة والزراعة، وساهم في تأسيس "شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج"، وهي أول جمعية تربط المجتمع العلمي العربي في الخارج والداخل. كانت المؤتمرات والمواسم العلمية التي تقيمها الشبكة في المدن العربية المختلفة تبدو لي كلوحة "موكب الحج" للفنان العراقي "الواسطي" في القرن الثاني عشر الميلادي. لافتات زاهية ومرح وبشائر وندوات حج العلماء العرب المغتربين إلى الأوطان. وفي عام 2000 ساهم البزّاز في إنشاء "المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا" في مدينة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، واختير عضواً في مجلسها الاستشاري، وهي أول منظمة علمية عربية دولية غير حكومية تربط علماء الداخل والخارج، ليس من خلال المحاضرات والندوات فحسب، بل عن طريق تطوير وتنفيذ مشاريع علمية يصممها العلماء بأنفسهم خصيصاً للعالم العربي. ولم يعد البزّاز يتردد في الاستجابة للدعوات العلمية من البلدان العربية، رغم تفاقم إصابته بانحلال الجهاز العصبي المركزي. كان يفضل اللقاءات العلمية العربية على مختبراته في "هارفارد" وتلامذته للدكتوراه الذين زاد عددهم عن الخمسين. وكالطفل العليل الذي يدفن نفسه في حضن أمه، نقل البزّاز بدنه وروحه إلى وطنه العربي وبين أهله. وكان يبدو في المؤتمرات والاجتماعات كالفهد المحاصر في القفص لا يستطيع التوقف عن الحركة... وظنّ كثيرون أن ذلك من غرابة أطوار أساتذة "هارفارد"! من يستطيع أن يكون قائد معركة بدنه وميدانها؟.. من يتدبر عاصفة تهزّ روحه، فيكون في اللحظة نفسها صلباً ومتلاشياً، حكيماً ومندفعاً، متماسكاً ومأخوذاً، عطوفاً ومتهكماً؟.. وقد صعق الحضور في مؤتمر علمي حاشد في القاعة الكبرى في "جامعة الشارقة" حين استهل البزّاز كلمته ببيت من الشعر الشعبي العراقي: "حزينْ... مثل بلبل صحا متأخراً.. ولقي البستان كلّه بلى تين". الآهة الطويلة لحرف "الياء" في كلمة "حزين" بدت كالأبدية!