مكبرات الصوت بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار... ويجب إلغاء كل مكبر والعودة إلى الصوت البشري القديم... هكذا كان الوضع قبل أربعين سنة، وليته بقي! كانت الفتوى تقول إن مكبرات الصوت هي صدى للصوت البشري، وليست الصوت الإنساني الذي يرفع به الأذان. هذه القصة رواها لي أستاذ فاضل جاء إلى منطقة نجد في السعودية قبل أربعين سنة، وعمل مدرساً في منطقة القصيم، فقال حدثت مشادة عظيمة حول مكبرات الصوت حين ظهرت إلى العالم؛ ففريق رأى أنها أداة ممتازة لتضخيم الصوت، ونقله ليسمع الناسُ الأذانَ من بعيد. أما الفريق المعارض -وليته ثبت فارتحنا- فرأى أن من ينقل الصوت هو الآلة، وليس الحنجرة البشرية، وصوت النفخ والنفث في الآلة ليس بصوت، ويسقط الحكم به، ولا يصبح أذاناً، بل صوتاً معدنيا تصدره الآلة. ولأن الأذان يجب أن يرفع بالصوت الإنساني؛ فيكون الأذان بذلك غير صحيح! وإذا تغنى المؤذن بصوته كان ذلك منكراً وفتنة للناس، ولذا كان الأصح والأفضل أن يؤدى الصوت الإنساني بشكل أجش كأنه طلقات مدفع! كل الجدل دار حول الآلة والصوت الإنساني، لكن الشيء الذي لم يدر حوله الجدل، هو أن هذا الصوت أياً كان مصدره، قد يصبح مصدر إزعاج بدون حدود، والحلاوة قد تقود لمرض السكر، وصرير الصوت قد يثقب غشاء الطبل إذا ارتفع إلى 180 ديسبل، وقد يقضي على السمع إذا احتد فوق طاقة الأذن بتحمل الصوت في تردد معين. لكن هذه المقاييس العلمية هي آخر ما نفكر به. ثم من يستطيع أن يعترض ويقول يا جماعة: إن الأذان يزلزل غرف النوم، ويوقظ الصبي النائم، ويزعج المريض، ويوتر الحامل، ويؤذي الضعيف، ويقلق المسن ومن هو في حاجة للراحة... فلم يعد كما جاء في الحديث "أرحنا بها يا بلال"! بل صوت مجلجل يوقظ الموتى من مرقدهم. وفي الحديث عن الوحي وصف النبي صلى الله عليه وسلم أن أشده وقعاً عليه كان من جاء على صورة صلصلة الجرس. ونحن حالياً في صلصلة الجرس ونفخ البوق ودروس الوعظ والنفخ عبر مكبرات الصوت، بما يذكر بالهتافات في مظاهرات الرفاق الحامية على مدار الساعة. لقد فقدنا حاسة الاتجاه، ولم نعد نقرأ القرآن، إن رفع الصوت ليس من شيم المؤمنين، ولقمان وصى ابنه فقال "واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وقد دعانا القرآن إلى تلاوته ليس بالجهر من القول ولا بالخافت، بل بين ذلك قواماً. الآن بعد مرور أربعين سنة، ليتهم اعتمدوا حكم البدعة. لكن المشكلة من جديد أننا نقفز من ورطة فندخل في ورطة أصعب. في الواقع التدين يشبه الملح؛ فقليل منه نافع للطعام، والكثير سم، والتدين منعش للروح إذا جاء ضمن الحدية الأخلاقية بين الغلو والاستهتار، أو على العكس، قد يكون مفسداً للذوق يعمل ضد الحياة، في الوقت الذي جاء للحياة. والأذان لم يعد أذاناً حين تقرع الأجراس، في خمسة آلاف مئذنة بما يحيل الجو إلى ما يشبه النفخ في الصور. "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون". إن ما يحدث هو أحد صور تلوث البيئة، فالجو مغبر، والصوت مزعج، والنور مبهر، والشوارع مليئة بالمخلفات، والحدائق قد تناثرت فيها المخلفات؛ فالأكياس مرمية، وعلب الكولا ملقية، وعظام الدجاج مبثوثة، والبعوض يطن، والذباب يجن... وبقايا الأنهار أصبحت مستنقعات مرض. لكن هل يستطيع أحد أن يعترض ويقول إن هذا ليس بدين بل جنون؟! كنت في دمشق، أسمع من قاسيون، ذلك النداء العذب من مؤذن تركي؛ فأقف وأسمع مستعذباً، والآن أحكم إغلاق النوافذ من كل جنب وجانب، بعد أن زلزلت غرفة نومي زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الضمير مالها!