يعتقد كثير من المسؤولين أن قهر حركات المعارضة وأعضائها ليس له تأثير ذو بال على حياة البلاد ما دام الأمر لا يتعلق إلا بمجموعة قليلة من الأفراد الذين يرفضون الانصياع للأمر الواقع، ويصرون على الاشتغال في قضايا، أدرك الجمهور الواسع أن لا أمل في الاشتغال بها، ولم يعد لممارستها... والمقصود هنا بالتأكيد السياسة أو قاعدة الشرعية. وربما اعتقد بعضهم أن هذا القهر، بأي ذريعة جاء، ليصب في النهاية في مصلحة المجتمع بقدر ما يجنب البلاد مشاكل التنازع السياسي والتنافس على السلطة، ويضمن مناخاً هادئاً لجذب الاستثمارات والعناية بالتنمية الاقتصادية. فهو ثمن بخس لكسب مزيد من سنوات الاستقرار وضمان التحكم بمستقبل البلاد ومصيرها، بعيداً عن تيارات التوتر الداخلية والنفوذ الخارجية. لكن الواقع غير ذلك تماماً. وبصرف النظر عما تمثله هذه السياسة من اعتداء على حقوق الأفراد الشخصية -فنحن نفترض أنهم مناضلون يعرفون منذ انخراطهم في عملهم أنهم اختاروا طريق التضحية ونكران الذات- من الواضح اليوم أن هذه السياسة أصبحت تدفع بالدول، وعلى نحو أكبر، إلى الوقوع في المخاطر التي تسعى لتجنبها بالضبط، أي إلى الإحباط والتوتر والانقسام في الداخل، وانهيار الثقة الخارجية بمستقبل واضح ومستقر للبلاد. فهي تظهر أكثر فأكثر للرأي العام، العربي والعالمي، الطبيعة الاحتكارية والانفرادية للسلطة القائمة، وطلاقها الكامل، في سبيل تأكيد نفسها وفرض احترامها على مجتمعها، مع المبادئ المدنية والسياسية الرئيسية التي لا تقوم من دونها حياة مدنية ولا سياسية في أي مجتمع معاصر. أعني مبدأ الشرعية واحترام الحريات الفردية والمساواة القانونية والمشاركة السياسية لجميع الأفراد. ولعل أخطر ما يشير إليه ذلك النهج هو أن سلطة تمارسه لا تقوم على مبدأ ولا نظام، وإنما هي سلطة تعسفية واعتباطية، يتصرف فيها القابض على زمام الأمر كما يريد ويبيح لنفسه أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وأينما شاء. فهي تعطي للعالم صورة عن مجتمعات بدائية لا تخضع في سلوكها لقانون آخر سوى قانون الغلبة والاستئثار. وهي تعيد تربية مجتمعاتها بالفعل على حسب قاعدة الغلبة والاستئثار التي تتحول إلى قانون مستبطن ومتمثل من قبل جميع الأفراد والفئات. والحال أن منطلق تكوين الأمم والدول والشعوب هو تأكيد قانون الحق مقابل حكم القوة. ذلك أنه من دون حق يعلو على القوة ليس هناك أمل في بناء أي علاقات إيجابية ومثمرة بين الأفراد. وهذا هو الذي ميز منذ البداية مجتمع الإنسان عن مجتمع الحيوان، وجعله منتجاً لثقافة وحضارة ومدنية. ولم تنشأ الدولة في العصر الحديث وتستقطب ولاء الناس وتتحول إلى مركز رابطة سياسية، أي أمة، بديلاً عن السلطنة وحكم العصبية الطبيعية أو قوة الاستيلاء، إلا بقدر ما أصبح مفهومهاً متطابقاً مع مفهوم الحق أو قانون الحق، وتكريس سلطة القانون وضمان ممارسة هذه السلطة بما يعزز كل يوم بشكل أكبر مفهوم الحق والعدل والإنصاف والمساواة، ويحد من إقامة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد على قاعدة القوة والغلبة الطبيعية، أي الحيوانية. هذا هو الذي يفرق في الواقع بين الحضارة والبربرية، أي بين العنف الذي تمارسه سلطة سياسية شرعية، باسم القانون وتطبيقاً له بالفعل، والذي يشكل أساس المدنية والسلام والاستقرار الاجتماعيين، بقدر ما يلغي الحاجة إلى استخدام الخواص للقوة، والعنف الذي تمارسه ميليشيات خاصة كانت تخضع في القرون الوسطى للإقطاعيين وتمكنهم من فرض الخضوع والسخرة على الفلاحين الأقنان، وتمارسه اليوم الميليشيات المتنافسة على السلطة والموارد في بعض البلاد التي انهارت فيها الدولة وأصبحت نهباً لأصحاب المشاريع الشخصية والخاصة من هواة الحرب والقتال. وهو الذي يفرق بين السلطة القائمة على مؤسسات تعمل بموضوعية وثبات، والسلطة الشخصية المستندة إلى إرادة الحاكم الفرد وتفضيلاته وأهوائه ومشاعره الذاتية. فبدل أن يكون صاحب السلطة والمسؤولية خادماً للدولة وأداة في يدها لتحقيق مطالب العدل القائم على تطبيق قواعد قانونية متساوية وموضوعية، تتحول الدولة ومؤسساتها، من إدارة وشرطة وجيش وحكومة وبرلمان وقضاء، إلى أدوات في خدمة إرادة شخصية تنزع بطبيعة سلطتها المطلقة إلى تبني سياسة العظمة والسمعة الذاتية، وتقود حتماً إلى الاستبداد. يهدف هدر معنى القانون والحق وإقامة العلاقات الاجتماعية على منطق العنف والقوة في البلاد العربية، إلى الحؤول دون ظهور أي قوى واعية ومنظمة بديلة، وإلى تحطيم أي قوى ناشئة أو محتملة. والنتيجة تعقيم المجتمع ومنعه من توليد أي نخب سياسية يمكن أن تشكل تحدياً في يوم ما لنخبة الحكم. وهذا ما تشهده مجتمعاتنا العربية تماماً. فعلى مدى نصف قرن، لم تكف آلة التعقيم عن تصفية أي نواة نخب سياسية جديدة نشأت في سياق تفاقم الأزمات والتناقضات الداخلية أو تبدل السياقات الخارجية. وقد طورت لتحقيق ذلك ترسانة هائلة من الدعاية الأيديولوجية والتلاعب بالتمايزات الدينية والقومية، وتأبيد القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية والحكم بالطرق العسكرية والأمنية والإدارية... والتي لا تقيدها قوانين ولا تلزمها دساتير ولا تخضع في عملها لأي قواعد مرعية سوى إرادة القائد وحاجة السلطة لتأكيد قوتها وإبراز عظمتها أو تلقين من يطمح إلى معاداتها أو حتى تجاهلها درساً في القسوة والانتقام. هكذا أصبحت حالة الطوارئ هي الحالة العادية وصارت العودة إلى الحالة الطبيعية التي يسود فيها القانون وتحترم فيها حقوق الأفراد، مشروع ثورة سياسية حقيقية. يضمن غياب القانون للقابض على السلطة أن يقضي على خصومه من دون أن يتحمل أي مسؤولية، وأن يحرم المجتمع من إمكانية توليد نخب سياسية بديلة، وأن يلقن الأفراد الذين يرفضون الخضوع للأمر الواقع درساً لا ينسى في ضرورة الإذعان والانصياع لحكم القوة. وهو يحلم أن يبقى على سدة السلطة من دون رقيب، وأن لا يكون لحكمه حد زمني واضح أو معقول، أي أن يتحول حكمه إلى قضاء وقدر. وهو غالباً ما ينجح في ذلك، لكن مقابل تكليف المجتمع ثمناً باهظاً قد لا ينجح في تحمله. فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا الحكم وتلك الإدارة هي خراب البلدان وجعل شروط الحياة الإنسانية والمدنية الطبيعية مستحيلة في البلاد. فأول ما يتأثر بغياب القانون والحق هو الاستثمار، عند الأفراد والجماعات معاً، ليس بالمعنى الشائع والضيق، بل بمعنى الاستعداد للانخراط الايجابي في العالم، مما لا غنى عنه لحث الأفراد على بذل الجهد وشحذ الإرادة والإجادة والإبداع. وكما يفسر غياب القانون، ذلك الخراب العام وتنامي مشاعر الاحباط والبؤس وانعدام الثقة والمسؤولية معاً في كثير من البلاد العربية، فإنه يفسر أيضا استقطاب المجتمع بين أباطرة مؤلهين بحكم السلطة والثروة والجاه، وعبيد محرومين لا قيمة لهم ولا احترام!