ذات مرة قال "شارلز سيميتش"، الشاعر الأميركي من أصل يوغسلافي، والذي هاجر من "صربيا" إلى الولايات المتحدة عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، إنه لن ينسى عبارة سمعها من والده يوماً وهي "إنه لأمر مرهق أن تكون صربياً". ربما يكون الأمر مرهقاً بدرجة أكبر عندما تتعامل مع الصرب، وتعاني من ويلات أوهامهم القومية. ويتذكر "سيميتش" سنوات طفولته، وما كان يسمعه من الزوار الذين كانوا يترددون على منزله والمهووسين بتاريخ الوطن وهم يتحدثون دوما عن "الشرف، والتضحيات البطولية، والمعاناة الرهيبة التي تعرضوا لها دفاعاً عن أوروبا ضد الإمبراطورية العثمانية، والتي لم يتلقوا مقابلها أي ثناء". وكان أولئك الزوار يزعمون أيضاً أن الأمة كانت ضحية لمؤامرات دبرها ضدها مَن كانت تضطر للتعامل معهم، وأن الخونة هم المسؤولون عما حدث من أخطاء...، وأن الصرب كانوا يطعنون بعضهم في الظهر، وأن الأمة قد تحولت إلى مجموعات من المخادعين، والمنافقين، والمارقين، والخونة... وأن أسوأ الجميع كانوا هم الحلفاء الكبار مثل إنجلترا، وأميركا، وفرنسا". وأنا شخصياً، كان لي صديق صربي في باريس، وعندما كتبت للمرة الأولى مقالاً في إحدى الصحف انتقد فيه صربيا "سلوبودان ميلوسيفيتش" لإقدامها على غزو سلوفينيا وكرواتيا عام 1991، اعترضني ذلك الصديق في باحة المنزل الذي كنا نقيم فيه ليقول لي: "إنني أعرف لماذا كتبت ذلك! لقد كتبته بإيعاز من السفارة الأميركية. إن النازيين الجدد في ألمانيا هم الذين يجبرون أميركا في الوقت الراهن على مساندة كرواتيا وسحق صربيا". وعندما رددت عليه بالقول، إنني لست معتاداً على أن يحدد لي السفير الأميركي مواضيع المقالات التي أكتبها، كما أنه ليس من عادة السفارة أن تفعل ذلك، كان رده: "إنه البابا إذن الذي يدفعك لكتابة مثل هذه الأشياء... إنك كاثوليكي، والبابا يقف في صف واحد مع النازيين والأميركيين لتدمير صربيا والمسيحية الأرثوذكسية". وهذا الجار والصديق كان رجلاً متعلماً، واسع الثقافة، متحضراً للغاية، وينحدر من عائلة أرستقراطية، وكنت قد عرفته لسنوات قبل ذلك، وكنت أعرف أنه متذوق للفنون، بل فناناً حقيقياً كذلك، وإنه كان مسؤولاً سابقاً في إحدى المنظمات الثقافية الدولية، ولم يزر صربيا منذ أن خرج منها طفلاً. لتلك الأسباب جميعها، كنت مذهولاً مما قاله لي ذلك الصديق الذي لم يتحدث معي أبداً بعد ذلك. لو كان هذا الصديق موجوداً الآن، لكنت قد سألته: ما الذي يستخلصه من تصويت الصرب على التقارب مع الفرنسيين والألمان والأميركيين، عندما أعادوا انتخاب "بوريس تاديتش" المعروف باعتداله وموالته للأميركيين، وفضلوه على منافسه الذي كان مؤيداً لحروب "سلوبودان ميلوسيفيتش" المجنونة، والتي شنها من أجل إنشاء "صربيا الكبرى" على أنقاض الحكم الذاتي لألبان كوسوفو، والاستيلاء على الأراضي التي كانت تابعة للقوميات الأخرى، والتي كان يتشكل منها الاتحاد اليوغسلافي السابق، والتي بدأها بالاستيلاء على "كراجينا" في كرواتيا، وقتل كل من اعترض طريقه..؟ لقد فعل ميلوسيفيتش ذلك في إطار خطة مبرمجة لإعادة توحيد جميع الصرب الذين كانوا يعيشون في نطاق يوغسلافيا السابقة! إن المظالم الوطنية، والنزعات القومية المحبطة، كانت هي اللعنة التي أصابت البلقان منذ ما قبل القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ أن بدأت الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية "هابسبيرج" في التداعي تدريجياً بوصولهما مرحلة الشيخوخة السياسية، وعدم قدرتهما على الاستجابة بشكل بنّاءٍ للوعي الوطني الجديد للمجتمعات الزراعية السابقة، والتي أيقظتها الثورة الفرنسية، وازدهار المعرفة، وانتشار المدارس وغيرها من عناصر التحديث الاجتماعي. في ذلك الوقت كانت تلك الأمم "الجديدة" تستيقظ من سباتها، وتسطر، بل تخترع، في الكثير من الأحيان، حكايات مجيدة عن أهميتها التاريخية التي حرمت منها بسبب الطغاة الأجانب. ومن المعروف تاريخياً أن صربيا التي تعتبر الدولة الرئيسية في البلقان، قد توحدت تحت الحكم البيزنطي والبلغاري، وأصبحت بحلول القرن الرابع عشر الدولة الأكثر تقدماً في المنطقة، وكان الشيء الذي يميزها عن جيرانها الغربيين، هو اعتناقها للمذهب الأرثوذكسي واستخدامها للحروف "السريالية" بدلاً من الرومانية في الكتابة. وفي القرن الرابع عشر، تصدت صربيا لقوات الأتراك العثمانيين التي كانت تتقدم في أوروبا، لكنها منيت بالهزيمة في ساحة القتال على الأراضي الكوسوفية عام 1389، حيث تعرض النبلاء الصرب للذبح، وانتهى استقلال صربيا. وكان الحكم التركي للصرب، أقسى مما كان عليه في باقي دول البلقان، باستثناء البوسنيين -جيران الصرب- الذين تحولوا إلى الدين الإسلامي وأصبحوا يعملون في خدمة العثمانيين. وقد أدت كل تلك الأحداث إلى تكريس الهواجس الوطنية ومشاعر الاضطهاد التي أصبحت سمة مميزة وبارزة في صربيا منذ ذلك الحين. وصربيا هي الدولة الوحيدة من بين دول القارة الأوروبية التي لا تزال خارج الاتحاد الأوروبي (باستثناء النرويج وسويسرا اللتين اختارتا الاستقلال). وكان الاتحاد الأوروبي يستخدم أسلوب الضغط والوعد بتقديم مكافآت العضوية لإغراء الصرب بالتصويت -وهو ما قاموا به فعلاً- لتاديتش بوصفه رجلاً معتدلاً غربي النزعة. لكن منصب الرئاسة ليس منصباً يتضمن صلاحيات كافية تمكن "تاديتش" من التغلب بشكل قطعي على المعارضة المستمرة من جانب السياسي القومي "توميسلاف نيكوليتش" الذي لا يزال موقفه المتمثل في الإصرار على الربط بين منع استقلال كوسوفو وتأكيد الثقة الصربية في دعم روسيا الأرثوذكسية (والنفط)، يحظى بقبول شعبي. وفي رأيي أن قضية استقلال كوسوفو لم تحسم بعد حتى لو بدا إعلان استقلال كوسوفو أمراً حتمياً، أما تداعيات ذلك الاستقلال على التوازن الدقيق للقوى التي توجد في بلغراد الآن فأمر لا يمكن التنبؤ به الآن. وهذا هو السبب في أن شجب الصرب لماضٍ يتميز بالنزعة القومية المفرطة والمدمرة، سيمثل خطوة في غاية الأهمية، تبدو ممكنة الآن وإن كان من الصعب الجزم بأنها مؤكدة. وفي حالة الإقدام على تلك الخطوة فإنها ستجعل الأمور أقل إرهاقاً بكثير بالنسبة لأي شخص صربي، بل وقد تجعل من العيش في جوار صربيا أمراً أقل إزعاجاً. ويليام فاف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"