للمرة الثالثة يغادر الأمين العام لجامعة الدول العربية بيروت دون أن يحقق اختراقاً، حاول الرجل قدر طاقته أن يجمع الفرقاء، ودخل في غابة من المناقشات التفصيلية، وحذر ما استطاع من قضية ترك الأمور على ما هي عليه لكن الاختراق المطلوب لم يحدث، وبات واضحاً أن "عصا موسى" لم تعد كافية وإنما ثمة حاجة ملحة إلى "صبر أيوب" على فرقاء الأزمة اللبنانية وحلفائهم العرب والدوليين. كنا قبل شهور ليست بالكثيرة نتصور أن الأزمة -كأية أزمة خطيرة في بلد له وضعه الاستراتيجي الحساس كلبنان- تتضمن أبعاداً محلية وأخرى عربية وثالثة إقليمية ورابعة عالمية، ومن ثم فإن حلحلة الموقف على أي صعيد من هذه الصعد يمكن أن تفضي إلى الاختراق المطلوب، لكنني أعتقد أنه بات واضحاً -مع أن هذا يخالف مألوف التحليل العلمي- أن الأبعاد الخارجية في الأزمة هي الممسكة بتلابيبها، والدليل البيِّن على هذا أن مطالب الفرقاء الداخليين في الأزمة قد بدا غير مرة أنها تتحقق لكن هؤلاء الفرقاء تصرفوا جميعاً وكأن المطلوب هو إدارة الأزمة بهدف استدامتها وليس حلها إلى أن تقضي الأطراف الخارجية أمراً كان مفعولاً. في أغسطس 2007 طرح رئيس مجلس النواب نبيه بري على الموالاة أن تتخلى عن خيار النصف + 1 في انتخاب رئيس الجمهورية وتتفق مع المعارضة على رئيس توافقي مقابل تخلي الأخيرة عن مطلب حكومة الوحدة الوطنية، فأخذت الموالاة تتلكأ وتتريث وتتساءل وتتشكك حتى ضاعت المبادرة، وها هي الموالاة نفسها تعيد طرح مبادرة برِّي على المعارضة بل وتضيف إليها اسماً لا يختلف عليه كونه خير مثال على رئيس توافقي، فإذا بالمعارضة تنقلب على فكرة هي أصلاً صاحبتها ولا تضيف إلى التوصل إلى رئيس توافقي مطلب حكومة الوحدة الوطنية فحسب بل حديثاً عن الإعداد والنِّسب واسم رئيس الحكومة القادم وقائد الجيش على نحو يصفي أصلاً معنى رئيس الجمهورية ودوره. ما الذي يعنيه هذا سوى أن تكون هناك لدى كافة الأطراف ارتباطات تحول دونها وأن تقدم على قبول شيء قبل أن ترى الضوء الأخضر من قبل الحلفاء الخارجيين؟ وهو أمر مفهوم سياسياً في بلد كلبنان يستقوي فيه كل فريق بالخارج، ويحسب ألف حساب لفقدان الدعم الخارجي، لكن المحصلة أن لبنان بات أسيراً لحسابات لا تتم على أرضه، وهي من ثم تهدد أمنه واستقراره بل وللأسف كيانه ذاته. في الإطار السابق تصرفت كل الأطراف على نحو غير دستوري إبان هذه الأزمة الممتدة. تجاهلت الحكومة القائمة رئيس الجمهورية ودوره الدستوري في أمور بالغة الأهمية كالمحكمة الدولية على سبيل المثال لمجرد خلافها معه واعتبارها إياه صنيعة سورية، ورضيت بالبقاء في السلطة على الرغم من أنها فقدت روحها "الميثاقية" باستقالة الوزراء الشيعة منها، وتشبثت أكثر وأكثر بالسلطة على الرغم من الإخفاقات الأمنية الهائلة التي كانت تكتفي فيها بأسهل الأدوار وهو إلقاء التبعات كلها على سوريا دون تحقيق أو قرينة، ناهيك عن تدهور الخدمات اليومية للمواطن العادي. يقرأ المرء أحياناً خبراً عن وزير نقل في بلد ديمقراطي انتحر لأن قطاراً انقلب، أو عن وزير آخر وضع نهاية لحياته لأنه استأجر شقة مملوكة للدولة بغير حق، ناهيك عن وزيرة الصحة في بلد عربي التي استقالت لحريق شب في مستشفى تابع لها، لكن حالتنا هذه مستعصية. وأحسب أن آخر تصرف سياسي طبيعي في لبنان هو استقالة رئيس الوزراء عمر كرامي الذي يستحق أن يوصف بأنه "بالغ الرومانسية" عندما لم يتحمل الاتهامات بالتقصير في أعقاب اغتيال الحريري. المعارضة بدورها تطالب الآن بما يناقض الدستور الذي يعطي رئيس الجمهورية وحده حق اختيار رئيس الحكومة بعد مشاورات ملزمة مع أعضاء مجلس النواب، وهي لا تريد نسباً وأعداداً فقط في حكومة الوحدة الوطنية وهذا حقها، وإنما تتحدث عن أسماء وتعيينات وضمانات مع أن الضمانة الأكيدة هي قوتها السياسية في الشارع اللبناني، ناهيك عن أنها الفريق الوحيد الذي يملك ما يشبه الجيش الموازي، وإن كان للأمانة لم يستخدم حتى الآن في غير مقاومة إسرائيل، وهي -أي المعارضة- تلوح من حين لآخر بـ"التحرك"، ولا بأس بالتحرك عندما يأخذ في بلد ديمقراطي شكل التظاهرات الحاشدة أو حتى الاعتصامات الفاشلة، أما قطع الطرق وتلويح العماد عون بأنه في حالة إخفاق العملية السياسية وفق الأسس الدستورية فإن الغلبة تكون للأقوى في الشارع فهذا أمر لا يمت للديمقراطية ولا الدستورية بشيء. ومع أن كل الفرقاء في الأزمة اللبنانية مدانون بتهمة عرقلة الحل فإن هذه الأزمة تمر الآن بمرحلة تبدو فيها الأكثرية في وضع أكثر رشادة، فهي تعيد طرح مبادرة بري على المعارضة في شكل اقتراح العماد ميشيل سليمان رئيساً توافقياً، فلا تجد المعارضة إزاء هذا الاقتراح المربك -كونه يعكس جوهر مبادرة الرئيس بري الناطق باسمها سابقاً- سوى اللجوء إلى تكتيكات تجعل المرء يتأسى على أيام مجيدة كان الفصيل الرئيسي في المعارضة -حزب الله- يلعب دوراً تاريخياً في مواجهة إسرائيل إبان عدوانها الفاشل في 2006، فقد غيرت المعارضة ممثلها من بري إلى عون وأعلنت أن ورقة الحل في "جيب" عون شخصياً، ويتحرق المرء شوقاً لمعرفة المكتوب في هذه الورقة، لأن عون نفسه يبدو من خلال مداولاته مع الأمين العام لجامعة الدول العربية غير ملم بما فيها، وهو يعود من حين لآخر للاتصال بحلفائه مع أنهم أعطوه هذا التفويض المطلق، ويعتذر أحياناً عن عدم حضور اللقاء بوعكة صحية. أتراها ورقة تعطيل الحل إذن؟ أم ورقة "إما أن أكون أنا الرئيس أو الطوفان"؟ لا يدري المرء حقيقة هل تغفل أطراف الأزمة اللبنانية الداخلية في لبنان عن أن امتداد الأزمة على هذا النحو يمكن أن يؤدي إلى تفجير حقيقي للموقف مهما كان القول إن الجميع متفقون على استبعاد الحرب الأهلية؟ ذلك أن عامل الوقت يسمح لكل القوى الخارجية المتربصة بلبنان وعلى رأسها إسرائيل أن تعبث في داخله على النحو الذي يفجر الأوضاع فيه، ويتيح للملاسنات الإعلامية والاحتقان السياسي درجة خطيرة من درجات التصعيد قد تنعكس -وقد انعكست غير ما مرة بالفعل- على الشارع اللبناني في أية لحظة، بل إن الجيش نفسه -رمز الوحدة الوطنية- قد استدرج إلى التورط في الأزمة كما جرى في أحداث 27 يناير الماضي. ولا يقل عما سبق خطورة أنه بات واضحاً أن الأزمة ستنعكس بالضرورة على قمة دمشق القادمة، فما لم يتم التوصل إلى حل قبل القمة ستجد الأطراف المختلفة مع سوريا في إدارتها للأزمة أنه يتعين عليها أن تعرب عن سخطها بطريقة تتعلق بالقمة، فتغيب عنها أو تخفض تمثيلها فيها إلى حد مهين، ناهيك عن احتمالات انفجار القمة من داخلها، وهكذا فبدلاً من أن تكون هذه القمة هي قمة المتابعة لآمال قمة الرياض وإنجازاتها تصبح شاهداً على الحالة التي وصل إليها عجز النظام العربي وتفككه. فهل يكون في هذا الاحتمال الخطير ما يدفع كافة الأطراف العربية المتناحرة إلى محاولة التوصل إلى حل قبل القمة؟ أم أن الأزمة سوف تواصل طريقها إلى هاوية يسقط فيها -لا قدر الله- لبنان والنظام العربي معاً؟