كلما رأيت التلفاز، وكلما قرأت في تحليلات صحف اليوم التالي عن الذي يحدث في أرضنا المشرقية التي سبق وقيل لنا إنها منبع الحكمة وموطن الحكماء، وأرض من كتب عن المدن الفاضلة وإلهامات حي بن يقظان، ومن سبق وترجم علوم الأولين وأضاف إليها المسحة الفكرية الإسلامية؛ كلما رأيت ما يحدث في أيامنا هذه تأكدت أن معارف الأولين وجهودهم ذهبت هباءً، وأنهم أفنوا أعمارهم من أجل لا شيء، فلا مدن فاضلة بل مدن تشتعل بالإطارات دلائل الاحتجاج والحرمان، وجشع يوسع هوة طبقات المجتمع الواحد، وفوضى لا يُعرف متى بدأت ومتى تنتهي وكيف؟ رأيت أمراً واحداً ملفتاً للنظر ينتهي عنده الباحث المُلِم بكل ما كتبه حكماء وفلاسفة العصور الإسلامية والعربية السابقون: وجدت عندهم -قبل أن يقفلوا آخر صفحات أسفارهم- تلك المسحة من التشاؤم العظيم لما يمكن أن يحدث في عالمهم الذي أحبوه وكانوا نظرياً يعتقدون أنه في مأمن من نكوصات الأزمنة، معلِّلين ذلك بأن الأديان ومنابع الحكمة كانت مواطنها هنا، غير أنه سرعان ما يعقب نزول آيات محكمات تنهى عن الفحشاء والمنكر بكل أشكاله، فتنة بين الناس المرسل إليهم نُذر الإقلاع عن الفحش في العمل والقول؛ وسرعان ما تترافق مع ذلك الكم الكبير من مخطوطات وأسفار الحكماء والباحثين عن الحقيقة المجردة، ملاحم قتالية بين قبائل ومذاهب وعناصر مختلفة، وكأن الفعل والواقع يقولان إن رسالات السماء واجتهادات حكماء الأرض ما هي إلا كُتب يقرأ بعضها للتعبُّد فقط، وبعضها الآخر يوضع على أرفف المكتبات للزينة والتباهي، وتقليب صفحاتها للاستمتاع بخلاصة عقول الأخيار -لمجرد- المتعة القرائية فحسب، أما بعد هذا فليس إلا الاحتكام للسيف والرمح في قديم الزمان، أو الرصاص والأحزمة الناسفة في أيامنا الحاضرة كالحة السواد. في قصة "حي بن يقظان" للحكيم العربي الإسلامي ابن طفيل يعرض هذا الحكيم على لسان صاحب قصته العجيبة آراءه في سكان جزيرة قريبة من جزيرته التي ظل طوال عمره فيها يعبد الله خالياً من التماسِّ مع الناس وشؤونهم الغرائبية... يقول: "ومازال (حي بن يقظان) يستلطفهم ليلاً ونهاراً ويبين لهم الحق سراً وجهاراً، فلا يزيدهم ذلك إلا نبواً ونفاراً مع أنهم كانوا محبِّين للخير راغبين في الحق، إلا أنهم ولنقص فطرتهم كانوا لا يطلبون الحق من طريقه، ولا يأخذون بجهة تحقيقه، ولا يلتمسونه من بابه، بل كانوا لا يريدون معرفته من طريق أربابه، فيئس من إصلاحهم، وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم. وتصفح طبقات الناس بعد ذلك فرأى كل حزب بما لديهم فرحون قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حُطام الدنيا، لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلى إصراراً، وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، عندها تحقق على القطع أن مخاطباتهم بطريقة المكاشفة لا تمكن، وأن تكليفهم من العمل فوق هذا القدر لا يتفق، وإذا تصفحت أعمال أحدهم من وقت انتباهه من نومه إلى رجوعه إلى الكرى لا تجد منها شيئاً، إلا وهو يلتمس به تحصيل غاية محسوسة، إما مال يجمعه أو لذة ينالها أو شهوة يقضيها أو غيظ يشفي به أو جاهٌ يحرزه". بالله عليكم -أعزائي القراء- افتحوا جرائد كل يوم وشاشة تلفاز كل صباح، وطبقوا قول ابن طفيل وما جاء على لسان "حي بن يقظان" على الأرض التي نزلت فيها الرسالات وأخرجت الحكماء والعلماء والناصحين، وقارنوا بعد ذلك إن كان المفكر الأندلسي المتوفى في عام 581هـ الموافق 1185م على صواب حين كتب أقصوصته العجائبيه، أم لا؟ الحقيقة أن ابن طفيل وغيره كانوا صادقين مع أنفسهم ومع من قرأ لهم بعد ذلك؛ فبلادنا المشرقية هذه الأيام هي منبع العناوين الأولى والأهم بل والوحيدة في أخبار الانفجارات والاغتيالات وتدبير المؤامرات البينية؛ التصق الإرهاب باسمها، ولن تجد في العالم من يضع متفجرة في سوق للخضار أو باحةً لبيع طيور الزينة، أو في مدرسة للأطفال أو في مستشفى لجرحى تفجير سابق إلا في بلاد ابن طفيل وابن رشد وابن سينا والمعري والمتنبي. حظوظنا في الاكتشافات العلمية نادرة، ومساهماتنا الحاضرة في عالم الفنون والآداب الراقية لا تكاد تذكر، وحروبنا مع أنفسنا وأبناء جلدتنا، بعد أن (نناجز) العالم... هي الأقرب لصفاتنا ونوازعنا. إنني أتعجب لماذا، وكل هذا الكم من آيات الرحمة والدعوة للتعارف نتلوها ليل نهار؟! بالطبع ليست كل شؤوننا بالغة السلبية، وليست كل أرضنا دماء ودموعاً وقبوراً، هناك أراضٍ تُبنى فيها المصانع والمتاحف وتقام عليها المنشآت الحضارية، ويترجم أهلها كرههم للموت الإرهابي ودعاته فعلاً وقولاً، لكن تلك المساحة من الأرض هي واحاتٌ صغيرة في وسط صحراء من العنف والكراهية للنفس وللآخر وللشجر والطير. ويبقى السؤال مُعلقاً منذ قديم الزمان: لماذا استفردنا بوحشية العالم، واستفردت بنا رغم نصائح راكب الناقة في حجة الوداع، ورغم ما حاول حضاريو أمة الإسلام قوله وكتابته؟ ... حتى نصل إلى إجابة علينا متابعة الأخبار العاجلة التي نعرف صُناعها، كما يعرفها العالم أجمع!