يتساءل الجيولوجيون الآن عما إذا أصبح لزاماً عليهم إضافة عصر جديد إلى الجدول الزمني العالمي المعروف، يطلقون عليه اسم عصر "الأنثروبوسين" أو العصر الجيولوجي البشري، وهي المرة الأولى من نوعها في تاريخ الأرض، التي أصبح فيها الجنس البشري قوة لها كل هذه السيطرة الجيوفيزيائية على المعمورة. كما أن تسمية عصر جيولوجي جديد كهذا، ستكون بمثابة اعتراف علمي بمشاركة البشر لبقية القوى الطبيعية الأخرى في مسؤوليتها عن الحالة البيئية لكوكبنا. يجدر بالذكر أن الجيولوجيين ظلوا يستخدمون هذا الاسم العلمي الجديد على نحو غير رسمي، لما يقارب نصف العقد من الزمان على أقل تقدير. أما اليوم، فقد شرعت اللجنة المختصة بدراسة طبقات الأرض التابعة لجمعية لندن الجيولوجية، في وضع الأسس التي يمكن بواسطتها إضفاء صفة علمية رسمية على هذا الاسم. وفي معرض شرحه لتلك الأسس العلمية –حسبما نشرت في العدد الأخير من مجلة -GSA Today لاحظ الفريق المختص أن كوكب الأرض قد مر بسلسلة من التغيرات منذ بداية الثورة الصناعية، بما يكفي لترك بصمتها العالمية الواضحة على طبقات الأرض. ومن رأي الفريق أن هذه التغيرات تختلف تمام الاختلاف عن أي معلومات جيولوجية سابقة تم تسجيلها عن الكوكب. ويعني هذا أن الفريق العلمي المذكور يتوقع من الجيولوجيين المستقبليين أن يولوا اهتماماً خاصاً لدراسة هذا السجل الذي خلفته الثورة الصناعية، على نحو يعبر عن قطيعة بائنة بين عصر "الأنثروبوسين" المقترح، وعصر "الهولوسين" السابق له –أي العصر الكلي الأخير- الذي غطى العشرة آلاف سنة الماضية. ومن رأي "بول كروتزين"، عالم كيمياء الغلاف الجوي، الحائز على جائزة نوبل للعلوم، والذي يعمل حالياً أستاذاً بمعهد "ماكس بلانك" الألماني، أن هذا التحول سيضع البشرية أمام تحديات كبيرة للغاية. وأشار إلى أن ما يطلق عليه الفريق الجيولوجي البريطاني المشار إليه صفات التغيرات الجيوكيمائية، والرسوبيات والحداثة البيولوجية... وما إليها من صفات، إنما يعكس بروز الذكاء الإنساني والتكنولوجيا باعتبارهما معاً قوة جيوفيزيائية جبارة لها تأثيرها الكبير على السجل الجيولوجي لكوكب الأرض. ومضى العالم "بول كروتزين" إلى القول عبر موقعه الإلكتروني الخاص به:"ويعني هذا تطوير استراتيجية تحظى بقبول دولي لهذه الصفات، بحيث تفضي في نهاية الأمر إلى الحفاظ على استدامة كافة النظم البيئية، في وجه الضغوط المستمرة التي تمارسها عليها البشرية". ووصف "كروتزين" هذه المحافظة بأنها المهمة الأكبر والأكثر مشقة التي تواجه البشرية في العقود المقبلة من عمرها. ولم يكتف "كروتزين" بوصف الظاهرة وتعقيداتها وتحدياتها فحسب، بل مضى إلى القول إن تحقيق هذا الهدف، وهو الحفاظ على استدامة النظم البيئية، يتطلب إجراء بحوث علمية مكثفة وتطبيقاً حكيماً للمعرفة المكتسبة، حتى تتمكن البشرية من الإدارة المستدامة لهذه الموارد والنظم البيئية. وهذا ما يوافقه عليه زميله الدكتور "دانيل ريختر"، أستاذ علوم التربة بجامعة "ديرام" البريطانية. ففي إطار الإعلان عن نتائج أبحاثه في هذا المجال خلال الشهر الماضي، أوضح أن التغيرات التي أحدثها البشر على التربة العالمية خلال الحقب الماضية، هي من الضخامة بما يكفي لتبرير الاعتقاد بأننا قد دخلنا عملياً مرحلة عصر "الأنثروبوسين"، أي العصر الذي صنعه الإنسان. وأشار "ريختر" أيضاً ضمن الإعلان نفسه إلى القول:"ففي عصر يستغل فيه ما يزيد على نصف التربة العالمية اليوم لأغراض زراعة المحاصيل الغذائية ورعي الماشية وقطع الأشجار بهدف استخدامها لشتى الصناعات الخشبية والورقية، فإن من الطبيعي أن تتحول المحافظة على استدامة التربة العالمية هذه، إلى قضية علمية كبرى في مجال صنع السياسات ذات الصلة بهذه الاستدامة". واستطرد "ريختر" إلى القول أيضاً:"وفيما إن كان للبشرية أن تحقق نجاحاً خلال العقود القليلة المقبلة، فإن علينا أن نتفاعل بدرجة أكبر من الإيجابية مع التنوع الهائل الذي تتسم به التربة العالمية". واستشهد هذا الباحث بتربة القارة الأفريقية باعتبارها نموذجاً على حجم هذا التحدي. والمشكلة التي تعانيها تربة القارة الأفريقية بصفة خاصة، هي انتشار ممارسة حرفتي الزراعة والرعي في شتى أنحائها ومجتمعاتها، دون ما أدنى اهتمام يذكر بتغذية التربة هذه وإعادة تخصيبها بما تحتاجه من أملاح ومواد مغذية، الأمر الذي يهدد خصوبتها وعدم قدرتها على الدعم المستدام لحاجة مجتمعات القارة الفقيرة والمتنامية سكانياً في ذات الوقت. أما على النطاق العالمي، فإن من رأيه أن اتساع المدن والمراكز الحضرية، وكذلك الصناعة والتعدين واتساع نظم النقل والمواصلات، جميعها من الظواهر التي تترك آثاراً سلبية على التربة، أشد ضرراً بها مما تخلفه الممارسات الزراعية. يجدر بالذكر أن الدكتور "ريختر" عضو في فريق علمي دولي، تمكن من بناء أول شبكة إلكترونية متخصصة في الأبحاث المرتبطة بدراسة التربة على المدى البعيد. وبالطبع فإن من شأن هذا الجهد المتخصص أن يساعد كثيراً في بناء المعرفة اللازمة لإدارة التربة على نحو أمثل وأكثر استدامة عالمياً. عودةً إلى وضع الأساس النظري العلمي لتسمية عصر "الأنثروبوسين"، فقد أشار العلماء الجيولوجيون من أمثال فريق جمعية لندن الجيولوجية وغيرها، إلى جوانب أخرى من تأثيرات النشاط البشري على التركيب الجيوفيزيائي لكوكب الأرض. وعليه فسيكون متروكاً للجنة الدولية لدراسة طبقات الأرض، ما إذا كانت ستعتمد رسمياً هذا الاسم العلمي الجديد أم لا؟ ومهما يكن فإن هناك من الأدلة ما يكفي على عمق التحولات الجيولوجية غير المسبوقة التي طرأت على كوكبنا، علماً بأنها تحولات لا رجعة فيها. روبرت سي. كوين ــــــــــــ كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"