رغم أن عاصفة الغبار التي أثارها تدافع مئات الألوف من الأشقاء الفلسطينيين إلى داخل رفح المصرية قد هدأت مع عودتهم إلى ديارهم بعد أن تزودوا بمؤن قد تكفيهم لأيام أو لأسابيع على الأكثر، فإن العاصفة التي هبت في وسائل الإعلام المصرية ما زالت رياحها تحدث الجلبة. وإذا كانت هذه الجلبة تعبيراً صادقاً عن تيارات فكرية في مصر، بل وفي سائر الأقطار العربية، فإنها تتطلب منا وقفة للتأمل. التيار الأول يظهر في كتابات قليلة تنظر إلى تفجير السياج الحدودي بين مصر وغزة واندفاع الجماهير الفلسطينية إلى داخل مصر يُعد تعبيراً عن أشواق الوحدة الإسلامية. وفي المقابل يقف التيار الثاني الذي يرى في هذا الفهم أهدافاً سياسية يسعى إلى ترويجها رجال "حماس" في غزة وأعضاء "الإخوان المسلمين" في مصر ليس بهدف عام يخص المصلحة الفلسطينية، بل بهدف خاص هو تثبيت سلطة "حماس" في غزة ودفع أسهم حركة "الأخوان" في مصر. أما التيار الثالث والأغلب، فهو التيار الذي يرى (وأنا معه) أن الحدود الوطنية للدول العربية يجب أن تُحترم وتُصان، وأن تغاضي مصر رئيساً وحكومة وشعباً عن عملية تفجير السياج الحدودي من جانب كوادر "حماس"، هو تغاض جاء مراعاة لظروف الحصار والعقاب الجماعي الإسرائيلي، وتمكيناً للجماهير الفلسطينية من الحصول على حاجاتها تمهيداً لعودتها إلى ديارها، وأن هذا التغاضي حدث لا يمكن أن يتكرر، خصوصاً بعد أن تبين أن خلايا مسلحة، بعضها تابع للمنظمات الفلسطينية، وبعضها تابع للموساد الإسرائيلي، قد اندست وسط الجماهير ودخلت إلى العمق المصري مستهدفه زعزعة الأمن الداخلي في مصر. إن هذا التيار الثالث الذي أشاركه الرأي يدعو الآن إلى اتخاذ السياسات والإجراءات التالية: العمل من خلال القنوات الدبلوماسية المصرية، ومن خلال مؤتمر القمة العربي الذي يعقد الشهر القادم على إعادة القضية الفلسطينية إلى مسار الوفاق الوطني الداخلي بين الفصائل الفلسطينية المتصارعة. هذه الدعوة إلى إنهاء الفتنة الداخلية الفلسطينية، لا يجب أن تصاب بالكسل واليأس، أو أن ينال من قوة اندفاعها عناد "فتح" أو "حماس" أو أن يضعفها ضغط دولي أو إسرائيلي، فلقد أصبح واضحاً أن الوحدة الداخلية الفلسطينية هي المفتاح، ليس فقط لإنهاء الحصار على غزة، بل ولإطلاق القضية الفلسطينية في مسارها السياسي. ثانياً:استئناف جهود الدبلوماسية العربية الموحدة لرفع الحصار وعدم الاكتفاء بموقف التعبير عن العجز والأسف للفشل في إصدار قرار من مجلس الأمن بإدانة إجراءات العقاب الجماعي الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة كما حدث في البيان الصادر عن المجموعة العربية في الأمم المتحدة. ثالثاً: مواصلة الحوار الرسمي المصري الذي دعا إليه الرئيس مبارك مع الرئيس محمود عباس وخالد مشعل والاتحاد الأوروبي للتوصل في أقرب وقت إلى ترتيبات فتح معبر رفح بما يسمح بمرور الأشخاص وانتقال البضائع إلى داخل غزة من مصر لتوفير الحاجات الإنسانية. رابعاً: بما أن تحطيم سياج الحدود قد أعاد إلى الأذهان المصرية أفكاراً إسرائيلية قديمة، تكررت في مناسبات عديدة، كان آخرها مؤتمر "هرتسليا" الأخير، ومضمونها يتعلق بإنهاء الوجود السكاني الفلسطيني في الضفة الغربية لتستأثر بها إسرائيل مع نقل السكان إلى قطاع غزة بعد توسيعه بمساحات من شمال سيناء ليتسع لإنشاء الدولة الفلسطينية، وبما أن هذه الأفكار الإسرائيلية المقلقة قد أثارت، في تقاطعها مع فكرة الحدود الإسلامية التي يجب فتحها، مخاوف حقيقية لدى المصريين من أن تعمد إسرائيل إلى الضغط مرة أخرى على سكان غزة للانفجار في اتجاه مصر كمقدمة لطرح فكرة توطينهم في سيناء والتخلص من الوجود العربي في الضفة، فإنه من المهم الآن العمل على إعادة بناء السياج الحدودي بين غزة ومصر، على نحو متطور غير قابل للنسف، حتى لا يغري جهات أياً كانت باقتحامه مرة أخرى لتفريغ القطاع من سكانه ودفعهم إلى سيناء. وإذا كان التيار الرسمي والشعبي الغالب في مصر، قد أعلن موقفه القاطع على لسان الرئيس عندما قال: إن مصر لن تسمح بتجويع الفلسطينيين في غزة، فإنني أرجو أن تعلن قيادة "حماس" أنها لن تسمح لإسرائيل بتفريغ القطاع من سكانه ودفعهم إلى مصر، وإنها ستعمل قدر المستطاع على إنهاء الفتنة الداخلية، وهو الأمر نفسه، الذي أرجو أن نسمعه من الرئيس عباس لصالح شعبنا الفلسطيني المعذب.