من ينظر حالياً إلى خريطة الشرق الأوسط "الكبير" بعمق وتركيز، يجد أن بعض الدول أصبحت تحت رحمة وسطوة تنظيمات سياسية وطائفية وعرقية، تريد أن تفرض إرادتها وتتحكم في مصير الشعب والدولة، في ظل تراجع حاد لدور ومسؤولية الحكومات، بل في كثير من الأحيان فقدت هذه الحكومات قدرتها على القيام بمهامها وأصبحت رهن حركة هذه التنظيمات. وإذا كان البعض يعزو ذلك إلى أنه سمة الأنظمة الديمقراطية، فإن الحقيقة والواقع يشيران بوضوح إلى ديكتاتورية في السلوك واستبداد في التوجهات، في ظل تنامي الصراع على السلطة والتنافس لفرض الإرادات على حساب مصالح الشعوب وتماسك الدول. والخريطة تشير إلى امتداد ذلك الأمر من باكستان شرقاً إلى الجزائر غرباً، ومن لبنان شمالاً إلى اليمن جنوباً، مروراً بأفغانستان والعراق وفلسطين والسودان والصومال، مما يجعل الأمر أشبه بمخطط تسعى من خلاله هذه التنظيمات إلى تفكيك أوصال الدولة وإعلان الاستقلال التام. وقد تنوعت هذه التنظيمات بين من يخلط السياسة بالدين، ومن يخلطها بالعرق أو الطائفة، ومن يحمل أجندة داخلية لها أبعاد وامتدادات خارجية، ومن له ارتباطات وتحالفات مع قوى أجنبية يصعب الفكاك منها، لذا فهو لا يملك القدرة على اتخاذ القرار. لكن هذه التنظيمات كلها اتفقت على تقويض دعائم الدولة، وتفكيك النظام القائم، بما يضمن في النهاية تحقيق مصالحها "الخارجية- الداخلية"، لذلك فإنه يصعب تصور التوصل إلى حل سريع أو خيار يتفق عليه الجميع للخروج من المأزق. ففي باكستان ترى "طالبان باكستان" أن من حقها فرض أجندة "القاعدة" من جانب، وأن تكون لها اليد الطولى في فرض "الإسلام الطالباني" من جانب آخر، وتقضي باغتيال وقتل من تريد وفق رؤيتها، وتصادر حقوق الشعب الباكستاني في التعبير عن إرادته السياسية، والوضع نفسه في أفغانستان، حيث "طالبان الأفغانية" مضت إلى أبعد من ذلك، فهي لا تعترف أصلاً بوجود الدولة وتعيث في الأرض فساداً، على اعتبار أنها الجهة الوحيدة صاحبة الحق الإلهي في وراثة أرض أفغانستان، وهذا أمر يتكرر بفصوله ذاتها في الصومال، حيث "طالبان الصومالية" التي وضعت يدها على الصومال أرضاً وشعباً، وصادرت كافة الحقوق، وباتت مستعدة لإعلان الاستقلال التام أو الموت الزؤام. وفي العراق حدث الأمر عكسياً، فقد أدى السلوك المتطرف للحكومة الطائفية إلى أن تسعى كافة الطوائف والأعراق إلى تشكيل مليشيات وتنظيمات متعددة تهدف إلى فرض أجندتها ومصالحها في مواجهة الطوائف الأخرى، خاصة الطائفة الشيعية التي تدعمها الجارة الفارسية على حساب كل العراق وأهله، لذلك فإن الحديث عن مصالحة وطنية عراقية لن يصل إلى شيء، لأن "المصالحة" لا تستطيع التوفيق بين المصالح المتضاربة من ناحية، كما أن الجميع ليسوا "وطنيين" بالقدر الذي يسمح لهم بتغليب المصلحة العليا للوطن على حساب المصالح الطائفية والعرقية من جانب آخر. وفي فلسطين، لا يزال "الأخوة الأعداء" ينفذون الأجندة الإسرائيلية، وإذا كان البعض يتصور أن "حماس" هي المشكلة، فالأمر ليس كذلك، لأن "فتح" وباقي المنظمات الفلسطينية الأخرى لها دور أساسي في الأزمة الراهنة، فالمصالح الذاتية هي الغاية التي تجري التضحية من أجلها، وتقلصت الأزمة "الفلسطينية- الفلسطينية" المتفاقمة والانقسام الحاد بين الفلسطينيين، في "معبر" قاد إلى حوار في القاهرة بين "الطرشان". أما في لبنان، فإن ما تتفاوض عليه التنظيمات السياسية والطائفية يجري تغييره في اليوم التالي، لأن الجهود الجارية من أجل معالجة أزمة الفراغ الرئاسي والخلاف بين الأكثرية والمعارضة على تشكيل حكومة وحدة وطنية؛ لا تحكمه أية قواعد تجعل من الدولة اللبنانية والحفاظ على تماسكها الغاية العليا، وما تم الاتفاق عليه من قبل في مؤتمر "الطائف"، يحتاج إلى مفاوضات لتنفيذه، مثلما هي حال اتفاق "مكة" بين الفلسطينيين، قبل أن تحسمه حرب أهلية لن يخرج منها أحد منتصراً. وإذا كانت بعض التنظيمات اللبنانية تتذرع بمسألة الحصص في الحكومة والضمانات التي تطمئنها، فإنها تخفي الصراع الواضح بين الأجندات الخارجية على أرض لبنان. ولم تستطع العاصفة الثلجية التي ضربته تهدئة العواصف السياسية التي تضرب أركان الدولة وتهدد بتقويضها بعد أن أصاب الشلل الحكومة وقضى على رئتها الاقتصادية والتجارية، وأدى التصاعد الواضح لعوامل التوتر والعنف إلى صدامات دامية، فالساحة اللبنانية قد لا تستطيع المحافظة على هدوئها وتماسكها إلى ما لا نهاية. وبالنسبة للسودان فالأمر مختلف حيث "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ترى ضرورة التخلي عن السودان القديم الذي يسيطر عليه "المؤتمر الوطني"، وهددت الحركة بأن الوضع سيقود إلى حرب أهلية طاحنة مثلما حدث في صربيا، ومن ثم انهيار الدولة، ويرجع هذا بصورة أساسية إلى خرق ما تم الاتفاق عليه من قِبَل "المؤتمر الوطني"، لأن الوضع عادة يجري، مثل ما حدث في لبنان وفلسطين، على مرحلتين من التفاوض، الأولى هي مرحلة التفاوض للتوصل إلى اتفاق، والثانية هي التفاوض لتنفيذ الاتفاق، وهذا يعني ببساطة أن ما جرى هو "الاتفاق على عدم الاتفاق"، ومن ثم تظل الأزمة قائمة. والقضية المركزية هنا ليست في دور الأطراف الخارجية بقدر ما هي دفاع عن مصالح ليس للوطن أو المواطن فيها مكان، والفارق الوحيد بين لبنان والسودان هو أن الأولى بها فراغ رئاسي بينما الثانية بها فراغ سلطة، مع اختلاف أيضاً لدور الأطراف الخارجية في الأزمة، وفي الحالتين تتجه الدولة إلى التفكك والإنهيار. وتؤدي سيطرة المنظمات على الدولة وتراجع دور الحكومات إلى تداعيات كثيرة على الدولة والمنطقة، بعضها مباشر وفوري، وبعضها الآخر يحدث على المديين المتوسط والبعيد، ومن أهم هذه التداعيات والانعكاسات: * انقسام المواطنين وسعيهم إلى الاحتماء بالطائفة والعرق والمذهب، ويبدأ كل طرف في مساندة مصالحه على حساب الدولة، فتتوقف حركة الحياة وتضيع المواطنة، وتسقط الدولة في براثن التقسيم. * انتشار حالة من عدم الاستقرار والأمن، مما يسمح لأطراف مختلفة بتصفية حساباتها والانتقام ممن تريد، وتعم الفوضى، الأمر الذي يقود في النهاية إلى تراجع الوضع الاقتصادي نتيجة لهروب الاستثمارات، وضعف الحركة التجارية، وهجرة رؤوس الأموال. * تسمح بمزيد من التدخلات الخارجية، لأن قوى الخارج لا تتدخل إلا إذا وجدت شروخاً داخلية تنفذ منها، وتتحرك من خلالها، ومن ثم تسعى إلى تعطيل التوصل إلى أي اتفاقات مناسبة بين الأطراف المباشرة طالما لا تحقق لها مصالحها، كما أنها لن تسمح بسد الشروخ الداخلية وترميمها إذا كان ذلك على حساب غايتها. * تتفاقم الأزمة الداخلية، ويصعب قبول أية مشروعات للحل، نتيجة لاتساع الفجوة بين رؤى التنظيمات المختلفة، في ظل استنهاض الطائفية ومن ثم تحتاج المفاوضات إلى مراحل لا تنتهي. * تدفع الدولة والشعب الثمن، حيث يجري اختزال الصراع بين التنظيمات والحكومات في قضايا ثانوية وهامشية، وشعارات جوفاء تحافظ على استمرار التأزم، وتسمح للانتهازيين بالإثراء غير المشروع نتيجة تعطيل أنشطة الدولة، ويكون الوضع أشبه بحالة من وقف إطلاق النار. * انتشار حالة من عدوى عدم الاستقرار وتدهور الأمن في الدول المجاورة، وربما تدفع الأقليات المختلفة إلى المطالبة بالانفصال أو الحكم الذاتي أو حق تقرير المصير. * إن استمرار الأزمة السياسية والصراع على السلطة لمدد طويلة يقوض أية محاولات للحل، لأن الأمر في النهاية يزداد تعقيداً وتتفاعل فيه القضايا المختلفة، مما قد يؤدي إلى شيوع يأس من التسوية عبر الحوار السلمي، وربما يحدث الانفلات الذي تصعب السيطرة عليه. لقد أصبح قدر هذه الدول أن يستمر الصراع بين الدولة والحكومة والتنظيمات، في ظل صعوبة التوصل إلى اتفاق بين مختلف الأطراف، حيث الجميع يدَّعون تمسكهم بالثوابت الوطنية!! لذا فإن جميع الجهود الداخلية والخارجية المخلصة لإنهاء الوضع سيكون مآلها الفشل ما لم يتفق الجميع على المصلحة العليا للدولة ويكون هناك إجماع على التخلي عن العمل "بالوكالة"، سواء لصالح أطراف خارجية أو من أجل "الكرسي".