هزني كثيراً تقرير قناة الـ"سي إن إن" الإخبارية الذي حوى فيلما وثائقياً لـ"القاعدة" وهي تجند الأطفال وتعلمهم حمل السلاح في العراق، وتدربهم على الاختطاف والقتل المبكر. كنت قد شاهدت فيلماً آخر لا يمكن بثه عن أطفال تعلمهم القاعدة على النحر. المشهد أكثر من سريالي، طفل لم يبلغ الثانية عشرة من العمر بعد ينحر رجلاً بالغاً، الرجل مطروح أرضاً ومغمض العينين، يداه موثقتان وراء ظهره، وقدماه مقيدتان بحبل متين. يمسك بأطرافه رجلان بالغان قويا البنية يثبتان الرجل على الأرض دون حراك ليجز الصغير رقبته. الطفل الصغير يكبِّر، ويكبِّر معه الحضور: "الله أكبر"، يجز الصغير رقبة الضحية بصعوبة، السكين لم تكن حادة بما فيه الكفاية، تتعثر بعظام الرقبة، الدم يسيل كجدول صغير، والطفل يحاول جهده القضاء على الضحية، تتوقف السكين في مواجهة العظام. أصوات في الخلف تستحث الصغير على إتمام عمله "الأسطوري" بكل "رجولة"، تخور قدرة جز الرقبة لدى الطفل، فيلجأ إلى ضرب الضحية على رقبتها بالسكين لفصلها عن باقي الجثة، تتهاوى العظام أمام ضربات السكين شيئاً فشيئاً. وأخيراً، يرفع الطفل الصغير رأس الضحية ممسكاً بها من شعرها الطويل وسط تكبير وتهليل الحضور. شعرت بامتعاض عمره قرون، قشعريرة انتابت آدميتي، تساؤلات طحنت ضميري: ترى! هل كانت لنا جميعاً ودون استثناء يد -بشكل أو بآخر- في خلق الأطفال القتلة؟ عدت بالذاكرة إلى انتفاضة أطفال الحجارة في الثمانينيات، تساءلت: هل كانت تلك هي البدايات؟ هل فشلنا ويئسنا وانهزمنا فأفلسنا ودفعنا بأطفالنا للمواجهة مع آلية إسرائيلية لا ترحم؟ هل كان تمجيدنا من أجل ضخ روح التضحية والبطولة، أم إفلاس وجبن وتضحية بالطفولة البريئة؟ هل هناك أمة تضحي بأطفالها وتقف متفرجة على "بطولاتهم" البريئة غير أمتنا؟ كيف قبلنا لأطفالنا أن تكون صدورهم العارية في مواجهة "الميركافا" و"العوزي" الإسرائيلية؟ لم يبقَ مذياع عربي إلا وأنشد وغنى ممجداً "تضحية الطفولة"، لم تستثن محطة تلفزيون عربية من عرض صور الأطفال بكل "وقاحة وجبن" على شاشاتها، لم يبقَ قلم عربي (لا أستثني قلمي هذا) إلا وسطَّر التفخيم والتعظيم الحرفي تغريراً من أجل تضحيات الأبرياء بطفولتهم قبل أن يعيشوها. آه! كم أجرمنا في حق أطفالنا! واعيباه! ندفع بأطفالنا نحو الهاوية، ثم ندين العالم الذي لا ينقذهم؟ لم نستطع أن نوفر لهم الأمن والتعليم والمستقبل والفرص في إثبات الذات الإنسانية، فدفعنا بهم نحو البلوغ المبكر الدامي إفلاساً وعجزاً. لقد أشدنا بالتمرد الطفولي على السلطة العائلية والأبوية، بل ومجدنا القتل العشوائي والانتحار العبثي الذي يقتل الأبرياء (مسلمين وعرباً وغيرهم)، وسميناه استشهاداً... آلة القتل الطفولية التي تمتلكها "القاعدة" من أطفال اليوم هي من نتاج الأمس القريب، هي وليدة ثقافة تمجيد محو الطفولة، هي فتاوى أن الرجولة "بلوغ الحلم"، وهي ثقافة تحميل الطفولة مسؤولية عجز أمة بمجرد أن يبلل الطفل فراشه حلماً. حين غابت الدولة، وحين فشل الكبار، وشاخ المنظِّرون، وصارت الفتاوى "بزنس" وتجارة، وحين اهترأت المناهج، وصدأت المدافع، وانتفخت الجيوب، وعميت القلوب، وفقدنا إنسانيتنا، أضعنا بوصلة سن الطفولة، وفقدنا مؤشرات الرجولة، فدفعنا بالأطفال وقوداً لسقر الدنيا وحروب الطوائف. شكراً لنا جميعاً، يا له من إنجاز، يا له من تميُّز فريد بين كل الأمم والشعوب، أطفالنا يكبرون ويبلغون دونما المرور بمرحلة الطفولة. يا أيها العالم الصغير: تعالَ تعلم! تعال وانظر إلينا كأمة نكبر صغاراً، نولد ثم نبلغ ونصبح رجالاً. دروس في سحق المراحل العمرية. يا لنا من أطفال أبرياء قتلة.