كثيراً ما يتردد الحديث هذه الأيام عن أفول القوة الأميركية، وتضاؤل مكانتها العالمية، بسبب جنوح سياستها الخارجية، ونفور حلفائها، وتورط جنودها في حرب يعتبرها الجنرالات أنفسهم غير قابلة للكسب. وما حدث لأميركا خلال السنوات الثماني الماضية ومنذ أن تولى جورج بوش الحكم، معروف جيداً، أما الأسباب التي أدت إلى ذلك فلا تزال تحير الكثيرين. في كتاب "المؤمنون بأحلام اليقظة: كيف تمكنت بعض الأفكار الكبرى من تقويض القوة الأميركية"، يمزج المؤلف وكاتب العمود المتخصص في شؤون الأمن القومي بمجلة "سليت" الأميركية "فرِد كابلان"، بين التقارير المعمقة والتحليلات الدقيقة، لتوضيح المدى الذي انحدرت إليه الإدارة خلال تلك السنوات، والأسباب التي دفعت الأمة الأميركية إلى السير وراءها. ويذكر "كابلان" قراء كتابه بأن البيت الأبيض والعديد من منابر التعبير وصفحات الرأي في أميركا، قد ظلت على مدى السنوات الثماني الماضية، تردد مزاعم جاذبة ومضللة في آن معاً مفادها أننا نعيش في عالم جديد لا يشبه أي عالم وجِد من قبل، وأن دروس التاريخ -لهذا السبب- لم تعد قابلة للتطبيق، وأن التكنولوجيا الجديدة قد غيرت شكل الحرب، والطريقة التي تدار بها، وأن سكان العالم سوف يتحررون من الأغلال التي تحد من حركتهم، ومن حريتهم في التعبير والرأي، إذا ما نجحت أميركا في إطاحة الطغاة الذين يحكمونهم، مع توجيه الاتهام لأي أحد يعارض تلك المزاعم بأنه يفعل ذلك لأسباب حزبية إذا ما كان داخل أميركا، وبأنه -إذا ما كان خارجها- لا يفهم ما يدور في العالم الجديد الذي أصبحت هي قطبه الوحيد. لقد كان بوش وفريقه، حسبما يرى المؤلف، يعتقدون أنهم أصحاب خيال ورؤية نافذة، في حين أن كل رؤاهم كانت مجرد خيالات بصرية أو أحلام يقظة، آمنوا بها تدريجياً كأنها حقائق. وفي تأريخه لسنوات حرب العراق، تفوق "كابلان" على غيره من المحللين، بما قدمه من شروحات معمقة للأخطاء الفادحة التي وقعت فيها أميركا، وبما عمل على توثيقه من حماقات ارتكبها مسؤولوها المدنيون والعسكريون، وترتب عليها نتائج كارثية في ذلك البلد. ويتناول المؤلف أيضاً الأخطاء التي ارتكبها بوش وفريقه في التعامل مع الملف النووي لكوريا الشمالية، ومحاولته إحياء برنامج الدفاع الصاروخي. ويرى المؤلف أن محاولات أميركا الرامية لفرض الديمقراطية في الشرق الأوسط، قد أسفرت عن عواقب وخيمة منها إطلاق تنظيمات العنف والفوضى في العراق وفلسطين وغيرهما من بلدان المنطقة من عقالها، بما تمثله تلك التنظيمات من تهديد مباشر وخطر داهم على مصالحها في المنطقة، حسب رأيه. ومما يعطي أهمية إضافية لكتاب "كابلان" كونه يحفل بالمعلومات الموثقة التي تمكن من الحصول عليها بفضل علاقاته الوطيدة بالدوائر العسكرية والمدنية والتي كان حريصاً على تقديمها بشكل واضح ويسير. هذه المعلومات تؤكد أنه من أخطاء إدارة بوش وخطاياها كونها اختطفت وسائل الإعلام، ووظفتها لإبراز وجهة نظرها، والترويج لأجندتها، وحرمتها بالتالي من أداء دورها الطبيعي، وهو مراقبة أداء الحكومة في كافة المجالات. كذلك يسلط "كابلان" الضوء على التداعيات التي ترتبت على المقاربات السياسية المحدودة الأفق، والتي انتهجتها إدارة بوش في التعامل مع العالم، وأدت إلى تغيير الطريقة التي ينظر بها العالم إلى أميركا. ورغم ما يدعيه الرئيس بوش حول تحسن الموقف في العراق، بعد زيادة أعداد القوات الأميركية هناك، وحول نجاح مقاربته لملف كوريا الشمالية، وحول تغييرها لمقاربتها الخاصة بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط... فإن المؤلف يرى أن الأمر يحتاج إلى الانتظار، حتى يمكن إدراك الآثار الفعلية الطويلة الأمد التي ستترتب على تلك السياسات والإجراءات، ولمعرفة ما إذا كان استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق -مثلاً- سيمثل حافزاً مستمراً لهؤلاء الذين يريدون قتل الجنود الأميركيين ولا يتورعون عن قتل الأبرياء، بل وقتل أنفسهم -إذا ما دعت الضرورة- في سبيل فرض رؤيتهم المتطرفة للإسلام، وما إذا كان هذا الوجود سيؤدي إلى إحياء تنظيم "القاعدة" وتعزيز قوته مجدداً، بعد أن كان قد تم تدمير بنيته الأساسية وإجبار قادته على الفرار عقب غزو أفغانستان. كما سيتعين الانتظار أيضاً لمعرفة ما إذا كانت كوريا الشمالية، ستقوم فعلاً بتفكيك برنامجها بالكامل أم أنها تنوي شيئاً آخر. والحقيقة المسكوت عنها إلى حد كبير، والتي يحرص المؤلف على إبرازها، رغم محاولات الإدارة الدائبة للتهرب منها والتغطية عليها، هي أن مكانة أميركا العالمية قد تدنت إلى درجة غير مسبوقة حالياً. هذا الكتاب يندرج ضمن الكتب التي تدين الجهل والغطرسة الأميركيين، ولذلك يتوقع له أن يحتل مكانة متميزة بين الكتب التي تستحق الرجوع إليها مستقبلاً للإطلال على ما حدث في السنوات الثماني الماضية، وعلى الطريقة التي كانت تفكر بها أميركا خلال تلك السنوات. سعيد كامل الكتاب: المؤمنون بأحلام اليقظة: كيف تمكنت بعض الأفكار الكبرى من تقويض القوة الأميركية؟ المؤلف: فرِد كابلان الناشر: وايلي تاريخ النشر: 2008