تستمر الكتب التي تتصدى لـ"المحافظين الجدد" في الصدور لتضاف إلى مجموعة المؤلفات الصادرة في السنوات الأخيرة والتي تسعى إلى رصد مختلف جوانب هذا التيار السياسي والفكري الذي اقترنت رموزه بإدارة الرئيس بوش. لكن الكتاب الذي ألفه "جاكوب هيلبرون"، الصحفي المخضرم الذي عمل كمحرر في مجلة "نيو ريبابليك" قبل أن ينتقل إلى صحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، بعنوان "يعرفون أنهم على حق: صعود المحافظين الجدد"، يميز نفسه عن باقي الكتاب الذين تناولوا ذات الموضوع من خلال التركيز على ما يسميه "العالم النفسي" للمحافظين الجدد. وهو بذلك يسعى إلى كشف البنى الفكرية والنفسية التي صاغت شخصية المحافظين الجدد كما باتت معروفة للمراقب. والهدف الرئيسي هو كشف المزاعم الفكرية التي يستند إليها المحافظون الجدد وكشف تهافتها الذي تسبب لأميركا في العديد من المشاكل على مستوى سياستها الخارجية. فمع أن المحافظين الجدد يصورون أنفسهم للرأي العام الأميركي وللإدارة التي يخدمونها على أنهم عمليون في سياساتهم، إلا أن الكتاب يشير إلى الطابع الأيديولوجي الغالب على تصوراتهم. ولكي يكشف زيف ادعاءات المحافظين الجدد، يلجأ الكاتب إلى التاريخ متعقباً المراحل الأساسية لتشكل المحافظين الجدد، بدءاً من ثلاثينيات القرن الماضي من خلال الشخصيات والمطبوعات المتحدثة باسمهم، وانتهاء بالمنابر الإعلامية المعاصرة المحسوبة على تيارهم مثل مجلة "ويكلي ستاندرد" ومعهد "أميركان انتربرايز"، بالإضافة إلى الوجوه الإعلامية التي تظهر في محطة "فوكس نيوز" وغيرها من المنابر المحافظة. هذا التعقب التاريخي لمسار تطور فكر المحافظين الجدد يكشف عن الأصول اليسارية لرموز المحافظين الجدد التي ترجع إلى المفكر السياسي التروتسكي "ماكس شاتمان" والمنظر "ليو شتراوس"، مروراً بتحولهما المفصلي إلى صف المحافظين واعتناقهما المبادئ المناهضة للشيوعية التي يعبر عنها الناقد الثقافي "ألان بلوم". هذه التحولات التي يشبهها المؤلف برحلة امتدت من اليسار إلى اليمين، ضرورية في رأيه لرصد تشكل البنية الفكرية للمحافظين الجدد، لاسيما تلك التي صاغها منظرها الأبرز "ليو شتراوس" باعتباره الأب الروحي للتيار ومؤسس نظامه الأيديولوجي. فالكاتب ينتقل في تناوله لشتراوس من الخاص إلى العام من خلال تساؤله عن السبب الذي جعل ذلك المفكر يتبوأ هذه المكانة البارزة في الساحة السياسة وتكتسي أفكاره كل ذلك النفوذ. النفوذ الذي ظهر من خلال الأهمية التي بات يحظى بها طلبته في الدوائر السياسية الرسمية في البيت الأبيض، والمراكز البحثية المتنفذة. وازدادت الأهمية بعد توالي ظهور مقالات في الصحافة الأميركية تربط بين رموز إدارة بوش وشتراوس مسلطة الضوء على التأثير الذي مارسته محاضراته في صياغة المقاربة الحالية لصقور البيت الأبيض مثل بول وولفوفيتز وغيره. غير أن الكاتب لا يستسلم للمقالات الصحافية ولا يرجع سياسة المحافظين الجدد إلى أفكار شتراوس باحثاً في تصوراته الفلسفية ومحاولاً إظهار التجني الذي تمارسه وسائل الإعلام على الفيلسوف السياسي. فشتراوس الذي يعتبر المحرك الرئيسي للراديكالية السياسية، حسب بعض الأقلام في الصحافة الأميركية، لم ينتسب في حياته إلى أي حزب أو حركة سياسية. كما أنه في أطروحاته الفكرية كان دائم التحذير من مغبة السقوط في الوثوقية السياسية التي يعتنقها المحافظون الجدد حالياً. وعلى سبيل المثال فقد تبنى قراءة مختلفة تماماً لكتاب "الجمهورية" لأفلاطون معتبراً أن الحوار الدائر في الكتاب إنما جاء ليبرز استحالة حكم الجمهورية من قبل الملك الفيلسوف، خلافاً للاعتقاد السائد بأن أفلاطون يسعى إلى إقناع الناس بفضائل الفيلسوف السياسية. وهكذا لم يكن شتراوس مثالياً كما كان أفلاطون، أو كما يميل إلى ذلك المحافظون الجدد من خلال تبنيهم مبدأ نشر الديمقراطية في العالم وتخليص الشعوب من الأنظمة الشمولية. ويوضح الكاتب أيضاً كيف أن شترواس ظل طيلة حياته متشككاً في قدرة النظرية السياسية على تقديم حلول جاهزة لرجال السياسة تُخرجهم من الأزمات الطارئة. وقد توصل شتراوس إلى هذه القناعة استناداً إلى مراقبته للنظامين النازي والفاشي اللذين سادا أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، والنظام الشيوعي الذي ساد بعدها، وعجز الفكر السياسي عن تطويق أيديولوجيتيهما وإزالتهما من الساحة. وبالتالي يظهر أن شتراوس كان بعيداً عن إضفاء صفة المخلص على السياسة، أو منحها القدرة على إنقاذ الشعوب من القمع والاستبداد، وهي الصفة التي يسعى المحافظون الجدد إلى تجسيدها بحديثهم عن تغيير الأنظمة وإرساء الديمقراطية حتى لو تطلب ذلك استخدام القوة العسكرية. ويكشف الكاتب أن الفكرة المثالية التي تقضي بالذهاب بعيداً لإقامة الديمقراطية وتغليب الخير على الشر هي من بنات أفكار الماركسية وفلسفة الأنوار ولا تمت بأدنى صلة إلى كتابات ليو شتراوس. ولعل في اعتناق المحافظين الجدد لفكرة تغيير الأنظمة ودفع الشر عن العالم، ما يكفي من حجج لإبعادهم عن شتراوس الذي ظل طيلة حياته الفكرية يحذر من المثالية السياسية ويدعو إلى ديمقراطية ليبرالية تحترم الآخر وتحفظ حقه في الاختلاف. وفي هذا السياق يصف الكاتب موقف شتراوس بأنه "ليبرالية دون أوهام"، مشيداً بموقفه السياسي الذي ينأى عن أطراف المعادلة السياسية في أميركا، لاسيما في ظل الاستقطاب الدائر حالياً بين المحافظين والليبراليين. زهير الكساب الكتاب: يعرفون أنهم على حق: صعود المحافظين الجدد المؤلف: جاكوب هيلبرون الناشر: دابلداي تاريخ النشر: 2008