تعمل "الوكالة اليهودية" منذ عقود طويلة على جلب أكبر عدد ممكن من اليهود من مختلف بلدان العالم الى فلسطين من أجل إسكانهم في أكبر مساحة ممكنة، سواء في فلسطين المحتلة عام 1948 أو تلك المحتلة عام 1967، وبالتالي تحقيق التفوق العددي الذي تمت المراهنة عليه كثيراً باعتبار أن تلك الهجرة هي العمود الفقري الداعم لاستمرار المشروع الصهيوني المتجسد بالدولة العبرية. يقول المؤرخ الإسرائيلي "بيني موريس" في مقابلته الشهيرة مع الصحفي "آري شافيت"، والمنشورة في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 9 ديسمبر 2004، "إن كانت نهاية القصة ستكون سيئة من وجهة النظر اليهودية، فإن سبب ذلك يعود إلى أن بن غوريون لم يكمل الترانسفير عام 1948، لأنه أبقى مخزوناً ديموغرافياً كبيراً ومتفجراً في الضفة وغزة وداخل إسرائيل نفسها". ويأتي استخلاص "موريس" هذا تلخيصاً للسياسة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة العبرية، وهو إقناع يهود العالم بأن هجرتهم "مع طرد أو عزل الفلسطينيين" عنصران جوهريان في بقاء إسرائيل وديمومتها. لقد أظهرت أرقام نشرتها وزارة الاستيعاب الإسرائيلية في ديسمبر 2007 أن هجرة اليهود إلى إسرائيل واصلت تراجعها وبلغ عدد المهاجرين 19700 شخص في عام 2007، وهو أدنى مستوى لها منذ 20 سنة، الأمر الذي يهدد مستقبل إسرائيل حسب زعم "زئيف بيلسكي" رئيس الوكالة اليهودية المكلفة بزيادة تلك الهجرة. وفي الوقت الذي فقدت فيه إسرائيل جاذبيتها كموطن للهجرة اليهودية، تراجعت حركة الهجرة نفسها بنسبة 6% مقارنة مع عام 2006، في حين أن الهجرة من دول الاتحاد السوفييتي السابق (والتي كانت تمثل 30%) تراجعت إلى 15% حيث وصل 6445 مهاجراً من دول المنظومة السوفييتية السابقة و3607 من إثيوبيا و2957 من الولايات المتحدة وكندا و2659 من فرنسا. إن خطورة هذا الوضع بالنسبة للقادة الإسرائيليين أجبرت، بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، رئيس الوزراء "أيهود اولمرت" على تكليف سكرتير الحكومة (عوفيد يحزقيئل) بحث إمكانية التسريع في تهويد أكثر من 300 ألف مهاجر جديد وتشكيل لجنة تعنى بتنشيط الهجرة إلى إسرائيل، وذلك من أجل منع فقدان الأغلبية اليهودية في الدولة. وبحسب المعطيات التي جمعت في ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي، فإن نحو نصف هؤلاء الـ300 ألف ليسوا يهوداً حسب الفقه العبري. وعلى صعيد إضافي، ولو مختلفٍ، هناك أكثر من ثلاثة آلاف مندوب تبثهم إسرائيل سنوياً في مختلف دول العالم لإقناع اليهود بفكرة الهجرة إلى إسرائيل. وكل ذلك وسط ارتفاع القلق من "الخطر الديموغرافي" بسبب ارتفاع معدلات الولادة بالنسبة للفلسطينيين وانخفاض مثيلتها لدى اليهود، وكأن الصراع أخذ بعداً جديداً يتمثل في قدرة الفلسطينيين على الصمود والبقاء في الأرض وكذلك في الإنجاب الكثير، فما كان من المخططين الإسرائيليين إلا أن حاولوا الاعتماد على الزيادة السكانية عبر زيادة الهجرة اليهودية إلى الدولة الصهيونية في مواجهة المعدلات المختلة للولادات الطبيعية، وهو الأمر الذي فشلوا فيه أيضاً، حيث تصل النسبة حسب الإحصائيات إلى زيادة مقدارها 1.9% سنوياً مقارنة بالزيادة الفلسطينية التي تصل إلى 3.5% سنوياً، أي أن الميزان الديموغرافي على هذا الصعيد يميل لصالح الفلسطينيين. لقد قاد الخوف من فقدان الأغلبية اليهودية في إسرائيل، وسط محيط متزايد من العرب، إلى تكثيف محاولات إقناع اليهود في العالم بالهجرة إلى إسرائيل شريطة أن يكون الجدد من الأغنياء كيهود الولايات المتحدة وفرنسا وكندا، ذلك أن مثل هؤلاء اليهود (الأغنياء والمتعلمون) هم المرغوبون في إسرائيل. غير أن مراهنة الدولة العبرية على إقناع يهود الكرة الأرضية بالهجرة إلى إسرائيل، خاصة في عصر العولمة والانفتاح العالمي، تضعف من فكرة ووزن الهجرة على أساس قومي، فضلاً عن أن الكثير من المهاجرين لم يتم حتى الآن استيعابهم خلال السنوات العشر الماضية، ومنهم اليهود الروس الذين تولدت لديهم مشكلة في العيش داخل إسرائيل فباتوا يتبلورون كشريحة مستقلة قائمة بذاتها، لها ثقافتها، بل إن قسماً كبيراً منهم أصبح يفكر في العودة إلى روسيا. إن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تلعب على نغمة أن إسرائيل هي الوطن القومي لليهود. فاليهودي الذي يدخل إلى الكنيس في أي مكان في العالم، إنما يذهب كي يصلي للقدس ولـ"أرض إسرائيل". ولاقتناعها بأن المحفز الديني غير كافٍ، تلجأ الدولة الصهيونية إلى المغريات المالية، فتوفر للمهاجر بيتاً وفرصة عمل وتعطيه منحة تصل الى 15 ألف دولار. لكن عندما يصطدم أغلب المهاجرين بواقع معيشي مختلف ومناقض للوضع المعيشي والجو الثقافي الذي عاشوه في بلدانهم الأصلية، فإن عدداً من المراقبين لاحظوا كيف أن هذه الصدمات تقود إلى أزمة تجعل الكثيرين منهم يغادرون عائدين إلى بلدانهم الأصلية. كذلك، تواجه إسرائيل مشكلة في طرح موضوع المستعمرات (المستوطنات) على المهاجرين اليهود الجدد. فالغالبية الساحقة من هؤلاء لا يأتون إلى تلك المستعمرات (حيث يقتصر الأمر فقط على المؤدلجين) إذ أن الغالبية الساحقة منهم غير معنيين بالسكن في مناطق تماس مع الفلسطينيين. وعلاوة على ذلك، تبرز المشكلة الخاصة بأنهم في إسرائيل لم يحددوا بعد حتى الآن من هو اليهودي! فحتى يومنا هذا، يوجد خلاف في الحركة اليهودية على هذا الموضوع، مثلما أنهم لم يحددوا حدود دولة إسرائيل. وهذان العائقان يشكلان سداً حقيقياً أمام استقطاب مزيد حتى من اليهود الراغبين في القدوم إلى إسرائيل. واضح أن عملية استقطاب "يهود الخارج" هدفها رفع منسوب اليهود في داخل إسرائيل باعتبار أن هنالك أزمة ديموغرافية تؤرق أصحاب الحلم الصهيوني. ومما سبق يظهر بوضوح مأزق الصهيونية ومشروعها في فلسطين. فعلى المستوى البشري والسكاني، لم يحقق المشروع الصهيوني أحد أهم أهدافه الرئيسية التي عمل عليها منذ تأسيس الحركة الصهيونية. ذلك المشروع الذي تبنى فكرة إنشاء وطن قومي لليهود وقيام دولة إسرائيل في فلسطين وتجميع يهود العالم فيها. ويعود الفشل النسبي في زيادة عدد اليهود المهاجرين إلى عدة أسباب على رأسها: نضوب هجرة يهود أوروبا الغنية، وعزوف يهود أوروبا الشرقية عن الهجرة بسبب تحقيقهم مستوى معيشة ممتازا في مجتمعاتهم، وشيوع حالة انعدام الأمن في إسرائيل بسبب الحروب المتجددة والانتفاضات الفلسطينية، وتدني مستوى الحوافز التي تقدم للمهاجرين الجدد مقارنة بالأجيال السابقة. بل إن بعض الدراسات أثبتت أن المجتمع الإسرائيلي (وبخاصة المجتمع السياسي الإسرائيلي) لا يستطيع التوازن والاستمرار من دون ممارسة العدوان للتخلص من "فائض" المواطنين الفلسطينيين، وأيضاً للتخلص من فائض التوتر الداخلي والهاجس الأمني الذي ينتاب معظم طبقاته ومعظم القيادات الإسرائيلية!