لقد اشتهرت شعوب البلقان وأوروبا الشرقية على امتداد القرون، بإشعالها لأوسع وأطول حروب القارة الأوروبية سجالاً، وبإطلاقها في التاريخ الأوروبي لعبارات ومصطلحات من شاكلة الإبادة والمجاعات الجماعية. غير أن إنشاء حلف "الناتو" في عام 1949، مكّن من عملية حفظ السلام في أوروبا الغربية. ومنذ نهاية الحرب الباردة، استطاع حلف "الناتو" أن يلعب دوراً تحويلياً بالغ الأهمية في بناء مهمة سلام ثانية، ساحتها هذه المرة وسط وشرق أوروبا. وأمام الحلف الآن، فرصة أخرى لإرساء مهمة سلام ثالثة في منطقة البلقان، إلى جانب فرصته في فتح حوار ربما يؤدي لميلاد مهمة رابعة تتلخص في بناء علاقة إيجابية بناءة بين أوروبا وروسيا. غير أن أعضاء "الناتو" يواجهون سؤالين كبيرين على قدر كبير من الأهمية، أثناء القمة المرتقبة للحلف في العاصمة الرومانية بوخارست في شهر أبريل المقبل. أولهما: عما إذا كانت ستتم دعوة كل من ألبانيا وكرواتيا ومقدونيا للانضمام إلى الحلف، فيما يعد تتويجاً للجهود التي ظلت تبذل على امتداد الخمسة عشر عاماً الماضية، لوضع حد للحروب التي أعقبت تفكك يوغوسلافيا السابقة. وثانيهما: عن طبيعة العلاقة التي تربط جمهوريتي أوكرانيا وجورجيا بحلف "الناتو"، خلال هذه الفترة المبكرة والمضطربة من استقلالهما وتطورهما؟ والسؤال الأكثر تحديداً هو عما إذا كانتا ستوضعان في مسار يؤدي بهما إلى الانضمام للحلف في نهاية المطاف، أم أنه سيتم استبعادهما من القمة المرتقبة؟ وفيما يتعلق بمنطقة البلقان، يرى المنتقدون أن ألبانيا وكرواتيا ومقدونيا لم تستعد بعد لنيل عضوية "الناتو". وبالنظر بعيداً إلى الشرق بقليل، يعرب المنتقدون عن قلقهم إزاء ضعف وهشاشة التجارب الديمقراطية في كل من جورجيا وأوكرانيا، إلى جانب ما يساورهم من قلق إضافي إزاء مدى التأثير المحتمل لعلاقات "الناتو" مع هذه الدول على العلاقات مع روسيا، بل وكذلك التأثير المحتمل للعلاقات نفسها على الجمهور الأوروبي الواسع، الذي تزداد حساسيته أكثر من ذي قبل إزاء أي توسعات جديدة للاتحاد الأوروبي. غير أن الحقيقة أن كلاً من ألبانيا وكرواتيا ومقدونيا قد أمضت ما يزيد على الثماني سنوات من الاستعداد المكثف لنيل عضوية الحلف الأطلسي. وبالنتيجة فقد حقق الاقتصاد الكرواتي درجة باهرة من الأداء، لاسيما تفوقه في أسعار القطاع العقاري مقارنة بأي من دول جنوب أوروبا. وخلال السنوات الأخيرة الماضية أسهمت ألبانيا بعدد إضافي من الجنود لتعزيز بعثاتها العسكرية المرابطة حالياً في العراق وأفغانستان وغيرهما من مهام حفظ السلام الدولية. وهي تفوق في هذه المساهمات أياً من الدول الأخرى الحليفة في "الناتو". أما مقدونيا، فقد بزت كأي دولة أوروبية أخرى في بناء مجتمع محلي متعدد الثقافات والأعراق، وأكثر وحدة واندماجاً خلال المدة القصيرة التي أعقبت نهاية الحروب البلقانية في عام 1999. وبما أن تلك هي الحقائق المتجسدة على الأرض، فما العيب في أن نستقطب إلى ديمقراطيات حلف "الناتو"، كلاً من كرواتيا الكاثوليكية، وألبانيا العلمانية المسلمة، ومقدونيا الأرثوذكسية؟ وبالطبع فإنه لا يزال يتعين على هذه الدول، أداء الكثير في الجانبين الاقتصادي والسياسي، إلا أن هذا لا يوفر ذريعة للحيلولة دون انضمام الدول المذكورة للحلف، أو للندم على اتخاذ قرار بتوسعته. ولك أن تتخيل أننا انتظرنا اليونان وتركيا حتى تستكملا مناقشاتهما الداخلية، قبل دعوتنا إياهما للانضمام إلى الحلف! أقول هذا وفي الذهن أن أي تأخير في حسم ترشيح كل من ألبانيا وكرواتيا ومقدونيا لعضوية الحلف، ستكون له تأثيراته السلبية على الاستقرار الإقليمي للمنطقة في وقت تتأهب فيه كوسوفو لفترة استقلالها المرتقب تحت إشراف دولي يقدر له أن يمتد طويلاً، إلى جانب ما لهذا التأخير من تأثير سلبي على الاتحاد الأوروبي وهو يتسلم للتو المزيد من المسؤوليات والمهام الأمنية من كل الولايات المتحدة الأميركية وحلف "الناتو" على امتداد المنطقة بأسرها. وفيما لو عجزنا عن طي هذه الصفحة بأسرع وقت ممكن في منطقة البلقان، فإن علينا أن نستعد لمواجهة مخاطر تلكؤنا في التصدي للمشكلات المثارة في الجبهة الأوروبية الشرقية أيضاً. أما التحدي الثاني الذي يواجهنا، فيتلخص في استقامة ومباشرة تعبيرنا عن صدق رغبتنا ومصلحتنا في أن تحقق كل من أوكرانيا وجورجيا النجاح الذي تصبوَّان إليه. فهاتان الدولتان لا تطالبان بالانضمام إلى عضوية "الناتو" –على رغم ما ستبديان من مشاعر سرور غامرة، فيما لو عاملناهما على أنهما عضوان مرتقبان في الحلف- وإنما تطالبان بمدهما بما تحتاجانه من أدوات تكملان بها الإصلاحات الجارية فيهما، بما يؤهلهما في نهاية المطاف للترشيح لنيل عضوية الحلف. وبهذه المناسبة نذكّر بأن لـ"الناتو" برنامجاً تأهيلياً لمثل هذه الدول، يعرف بـ"خطة عمل نيل العضوية". وبالطبع فإن خطة العمل هذه لا توفر أي ضمانات لنيل الدولة المعينة لعضوية الحلف، ناهيك عن ضمانات انضمامها للاتحاد الأوروبي. وعلى وجه الدقة فلنقل إن الوظيفة الأساسية التي ستؤديها الخطة هذه هي تدشين عملية سياسية مفتوحة، تمضي بموجبها كل من أوكرانيا وجورجيا بضع سنوات مقبلة في التصدي لجملة من القضايا الأساسية: تحقيق الاستقرار الداخلي وضمان وحدة أراضيهما، تأهيل مؤسساتهما، إلى جانب ما ينتظرهما من حل النزاعات العالقة، قبل اتخاذهما أي قرار سياسي بالانضمام إلى "الناتو". أما في الجانب الروسي، فليس ثمة ضرر يقع على موسكو جراء المزيد من التقارب بين "الناتو" وجارتيها هاتين. بل الصحيح أن هذا التقارب سيؤدي بروسيا نفسها على المدى البعيد، إلى توطيد علاقتها بأوروبا، بما يذلل لاحقاً الحوار مع موسكو حول قضايا الديمقراطية وسياسات الطاقة. وإن كانت قد دنت الآن عملية السلام الثالثة في أوروبا، فها هي قمة بوخارست المرتقبة توفر فرصة ملائمة لإطلاق العملية الرابعة. بروس بي. جاكسون رئيس مشروع "الديمقراطيات الانتقالية" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"