أثيرت في الآونة الأخيرة بعض الملاحظات حول مدى جدوى افتتاح فروع للجامعات الأجنبية في البلدان العربية، وبالأخص في دول مجلس التعاون الخليجي، بل إن البعض اعتبر مثل هذا التوجه نوعاً من الهيمنة الثقافية. وباعتقادنا، فإن في ذلك مغالاة وعدم تقدير للدور العلمي والتنموي الكبير الذي يمكن أن تضطلع به فروع هذه الجامعات في بلدان المنطقة، وخصوصاً أن بعضها يمثل جامعات عريقة ولها مساهماتها في التقدم الإنساني على مدى أكثر من مائتي عام. لقد سبق وأن جرى الحديث عن أهمية التخلص من عقدة الفترة الاستعمارية السابقة والنظر إلى التطورات العالمية بروح إيجابية، مع الاستفادة من التقدم العلمي والتقني الكبير والمتسارع، وتسخير ذلك لتنمية الاقتصادات في منطقتنا. وضمن هذه الاستفادة، بل على رأس أولوياتها، تأتي مسألة التعليم التي لا زالت تعاني في بلدان المنطقة، حيث أشار تقرير البنك الدولي، الذي صدر هذا الأسبوع، إلى تدني مستوى التعليم في العالم العربي، بل إن مخرجات التعليم لا تجاري متطلبات التنمية الاقتصادية المتسارعة، مما يؤدي إلى زيادة الاعتماد على الخارج في تلبية احتياجات مختلف القطاعات الاقتصادية من الكفاءات والمؤهلات العلمية. في الماضي لم يكن بإمكان الحضارة العربية الإسلامية أن تحقق ما حققته من تقدم في مختلف المجالات لولا اقترابها من الحضارة الإغريقية وترجمتها للكتب، وابتعاث الطلاب واستقدام العلماء والحرفيين إلى البلدان العربية. وبدورها، فإن الحضارة الغربية لم يكن بإمكانها تحقيق التقدم السريع في عصر النهضة لولا قربها من الحضارة العربية الإسلامية والغرف من ينابيع العلم فيها، وترجمتها للكتب وابتعاثها للطلبة لتلقي العلم في جامعات ومعاهد الأندلس، ونقل هذه التجربة إلى البلدان الأوروبية. ولا يبالغ بعض الفلاسفة الأوروبيين حين يتحدثون بإعجاب شديد حتى الآن عن فلسفة ابن رشد، بل إن الكثير منهم يعتبره الأب الروحي لعلم الفلسفة الحديث. إن عملية النقل العكسية التي تتم حالياً من الغرب المتقدم إلى العالم العربي، تحدث في ظروف مختلفة تماماً، وبوسائل لم تكن متاحة في السابق، وذلك بفضل التقدم الهائل في عصر المعلومات والاقتصاد الرقمي. وبما أن الظروف مختلفة، فإنه من الضروري التعامل معها بصورة مختلفة وبعيدة عن الحساسيات التاريخية التي صبغت العلاقات بين المركز والأطراف خلال سنوات القرن الماضي، التي اتسمت بالمشاحنات والتوتر. ومن هنا جاء التوجه الصحيح والبداية الصحيحة لبعض دول مجلس التعاون الخليجي التي سعت في السنوات الماضية، ولا زالت، إلى تطوير التعليم وحققت نتائج مهمة على أكثر من مستوى، بما في ذلك استقدام مؤسسات علمية عريقة وتتمتع بمكانة تاريخية وعلمية مرموقة، ونخص بالذكر هنا افتتاح فرع لجامعة السوربون في أبوظبي وإقامة فرع لجامعة كورنيل في الدوحة، بالإضافة إلى العديد من فروع الجامعات والمعاهد الأخرى. وفي مجال الترجمة يقوم مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بدور رائد أثمر ترجمة العشرات من الكتب العلمية والثقافية في مختلف العلوم والتي أغنت المكتبة العربية، بما فيها ترجمة كتب اقتصادية مهمة تشرح وبصورة واقعية التطورات الاقتصادية الجارية في العالم، والتي ستكون لها تأثيرات عميقة في السنوات القادمة، ستطال كافة البلدان، بما فيها منطقة الخليج التي يزداد اعتماد العالم عليها للتزود بالطاقة. إن من ينتقد افتتاح فروع لجامعات أجنبية عريقة، تسيطر عليه نظرة أحادية أو عاطفية لا تنظر إلى القضايا بصورتها المتصلة، أو أنه لا يأخذ بعين الاعتبار انفتاح بلدان العالم على بعضها بعضاً، وازدياد حدة المنافسة الاقتصادية التي تتطلب، أول ما تتطلب، تطوير التعليم، إذ إن ذلك هو ما أشار إليه مؤسس سنغافورة الحديثة وباني إحدى أهم التجارب الاقتصادية الناجحة في العصر الحديث "لي كوان يو" خلال محاضرة له في السعودية نهاية شهر يناير الماضي. إذا كان أجدادنا استفادوا من الحضارة الإغريقية، وإذا كان الأوروبيون استفادوا من حضارة أجدادنا، فالأولى بنا في عصر العولمة، أن نستفيد من الحضارات الحديثة، وبالأخص الأوروبية، بما في ذلك افتتاح المزيد من الفروع للجامعات العريقة التي سيتخرج منها مئات من الكفاءات العلمية والمهنية، والتي سيكون لها دور تنموي مهم لا زالت دول المنطقة في أمسّ الحاجة إليه.