من الطرائف التي تُروى أن جنازة كانت تمشي إلى المقبرة و"الميت" يصيح قائلاً: يا للمسلمين، أنا حي فكيف تدفونني؟ والقاضي يقول: لا تقبلوا قوله وادفنوه. هل نصدق قول رجل واحد لا تُعرف عدالته مع شهادة العدول بموته؟ وهل يجوز بقاء من ثبت موته بلا دفن؟ وفي واقعنا، كثيرون كوّنوا آراءهم في بعض الأمور بناء على أقاويل، وغضوا الطرف عن وقائع يعرفونها جيداً، بعضها مناقض تماماً للأقاويل التي اعتمدوها في بناء آرائهم، مثلهم مثل من يقف على جبل، فيرى الحجر الصغير ولا يرى الجبل نفسه. من ذلك، الأقاويل التي بناها صدّام أمام جبال جرائمه، ولعل أكثر أقاويله إضحاكاً هو أنه أراد تحرير فلسطين بغزو الكويت، وخرجت المظاهرات تحمل صوره، على الرغم من أن الطالب في الابتدائية، حتى لو كان راسباً في الجغرافيا، يعرف أن الطريق إلى فلسطين لا يمر عبر الكويت. ومن الأقاويل أن الثورة الإيرانية رفعت رؤوس الإيرانيين حين وقفت في وجه "الاستكبار العالمي" وصنعت لهم مجداً بالمفاعلات النووية، على الرغم من أن جبال بؤس الإيرانيين وشقاءهم يمكن أن تُرى بالعين المجردة من فوق القمر، ولعلّ آخر جبل ظهر في إيران، إضافة إلى سلاسل الجبال التي تكونت منذ أن أنعم الله عليهم بالثورة، هو جبل الغاز الذي انقطع من المورّد التركمانستاني حتى أصبح الإيراني، في المناطق الشمالية التي وصلت درجة الحرارة فيها إلى ما دون الصفر بكثير، يرتجف في بيته محاطاً بأكوام الثلج بينما تحت قدميه ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم. ومنها أن "حزب الله" حقق "نصراً إلهياً" في حرب يوليو 2006. وهو قول من الأقاويل، بينما جبال الخسائر اللبنانية يراها حتى الأعمى من داخل بيته: جبل من الجثث والأطراف المبتورة، نحو 1187 قتيلاً، و4054 جريحاً. جبل من النازحين نزلوا إلى الشوارع بلغ عددهم نحو 970 ألفاً، وهم يمثلون ربع اللبنانيين. جبل من ركام وأنقاض 15 ألف بيت ومئات الجسور والطرق. جبل من الخسائر المادية قدرتها الأمم المتحدة بنحو 15 مليار دولار لا يمكن أن يفتتها حتى زلزال "المال الحلال". جبل كبير يجثم على صدر الحزب نفسه يتمثل في 15 ألف جندي أجنبي من القوات الدولية قدموا إلى لبنان خصيصاً لجعل جنوبه منطقة خالية من كل مظاهر السلاح، وأصبح الوصول إلى إسرائيل للقيام بمغامرات "علي بابا" دونه جبل القوات الدولية. ولا ننسى بالطبع أن هذا الجبل يحتوي على مغارة يختبئ فيها زعيم الحزب نفسه. أما الجبل الأسوأ من هذا كله، فهو جبل الطائفية التي نزلت إلى الشوارع بعد أن كانت من قبل على طاولة السياسيين، وجعلت الطائفة التي يمثلها الحزب، أو بالأحرى يمسك بخناقها الحزب، طائفة منعزلة عن باقي اللبنانيين. ومن الأقاويل أيضاً أن سلاح "حزب الله" لن يوجّه إلى الداخل، كأنّ نصب الخيام منذ أكثر من سنة وشهرين في وسط بيروت التجاري، وتعطيل الحياة فيها ليس سلاحاً مدنياً محمياً بسلاح عسكري، إلا إذا كان وسط بيروت لا يعتبر من الداخل وإنما قطعة من حيفا، و"ما بعد حيفا". أثبت باحثون ألمان مؤخراً أن الأقاويل تساهم في تكوين الآراء عند الناس أكثر من الوقائع التي يعرفون أنها صحيحة، بل وحتى عندما تكون هذه الأقاويل مناقضة للأدلة.. فهل ثمة جديد؟