المسيرات المنددة بالحصار الظالم والمنادية لا للخنق، لا لتجويع الفلسطينيين، والتصريحات والمقالات التي استنكرت العدوان الوحشي والمطالبة بوقف العدوان... حق مشروع وكذلك الإدانات الدولية شبه الإجماعية، مما جعل "نيويورك تايمز" تصف في افتتاحيتها ذلك الحصار "وصمة عار"، إذ لا يمكن معاقبة شعب بجريرة بعض أبنائه ولا يمكن قبول المنطق الإسرائيلي "حتى يدرك سكان غزة أن القصف الصاروخي يكلفهم كثيراً"، كما لا يمكن تسويغ تبرير السفير الإسرائيلي في لندن -أن "حماس" بدلاً من أن تستورد دقيقاً وسكراً للمواطنين تستورد مواد تفجيرية- إذ أن هذا المنطق حكم بالإعدام على 1.5 مليون إنسان، وذلك التبرير يحمل شعباً سوء إدارة نظامه! لكن ماذا عن "حماس"؟ لم نسمع في معظم التصريحات والكتابات ما يشير إلى مسؤوليتها، وقلة صرحوا بها منهم (أبومازن) الذي قال: "نقول لمن يطلق الصواريخ توقفوا، لا تعطوهم ذريعة ليدمروا البلد، يجب وقف الصواريخ العبثية التي تؤدي للعقاب الجماعي، وإنا ندينها". كما حمل الرئيس مبارك "حماس" وإسرائيل المسؤولية لأن "حماس" تعطي الفرصة لإسرائيل لتصعيد الوضع، لقد أطلقت صواريخ بدون داع. وهناك من الكتاب من عبروا عن انتقادهم لـ"حماس" وتساءلوا: أين الحكمة في هذا العمل؟ وكيف تعرض حماس 1.5 مليون فلسطيني للأذى وتعطي الفرصة لأولمرت لاستعراض قوته ورفع شعبيته بتلك الغارات العبثية؟! المقاومة حق مشروع لكن يجب أن نملك فكراً ووسائل وأدوات مجدية بحيث لا يشعر مجتمعها بأنه يدفع ثمناً لا يستطيع تحمله. لقد دهشنا لقدرة خالد مشعل على المراوغة وفن التنصل من المسؤولية حينما خاطب حكام العرب قائلاً: "كل لحظة يموت فيها فلسطيني في غزة، دمه وروحه أنتم مسؤولون عنهما أمام الله، إن لم تنصروا شعب فلسطين فإن الله لن يغفر لكم، وشعوبكم لن تغفر لكم". لكن أين مسؤوليتك يا مشعل؟ ومن الذي أوصل غزة إلى هذا الوضع الكارثي؟ أليست هي مسؤولية "حماس" بانقلابها الدموي وعزلها القطاع والانفراد بحكمه؟ من الذي نقض الأيمان المعقودة تحت أستار الكعبة؟ من الذي سجد شاكراً لله بانتصاره على أخيه في الوطنية والنضال ونكّل به؟ وأين المسؤولية الدينية والوطنية في خوض حرب غير متكافئة نتيجتها قتل أبرياء؟ وهل ضمنت يا مشعل المغفرة، وأوزار حكمكم يشقى بها سكان غزة حتى يودون الفرار من جحيمها؟ لو كنتم صادقين مع الله وأنفسكم وشعبكم لاعتذرتهم وتراجعتم وأنتم على الشرعية وتقويضكم للديمقراطية! لكن لماذا تجنب معظم الكتاب الإشارة إلى مسؤولية "حماس"؟ أتصور أن الكتاب ثلاثة: صنف يرى أن المقاومة مهما جرّت على شعبها من كوارث ومآس فخطاياها مغفورة، وهم مع "حزب الله" في مغامراته ولو دُمّرت لبنان، ومع "حماس" في تصورها ولو جوّعت شعبها، ومع طغاة العرب العظام وإن استبدوا وأذلوا شعوبهم ما داموا رفعوا لواء التحدي والمواجهة. صنف ثان يعرف خطأ "حماس" ويأبى أن يصارح الرأي العام خوفاً على شعبيته. وصنف ثالث يرى أن مقتضيات الحياد بين "حماس" و"فتح" تلزمه السكوت عن أخطاء "حماس". وكل هؤلاء مسؤولون عن تراكم الأخطاء وعدم تصحيحها، فهم إذ يضللون الجماهير أيضاً يدفعون "حماس" لمزيد من التصلب والتمادي في الخطأ. أما التساؤل الثاني فيتعلق بأسباب ومبررات "حماس" في إطلاق صواريخها في هذا الوقت وهي التي امتنعت عن ذلك على امتداد 7 شهور حاولت فيها "طمأنة" إسرائيل إلى أنه "لا هجمات من غزة"، وسعت عبر وسطاء عرب وأوروبيين لعرض "هدنة" على إسرائيل، لكن هذه كانت هي الرافضة لعدم مصداقية "حماس" في نظرها، فمن ينقض العهد مع أخيه كيف لا ينقضه معها! المبرر الوحيد في نظري في استهداف "حماس" لإسرائيل بالصواريخ في هذا التوقيت، هو تخريب "العملية السلمية" بأية وسيلة وبأي ثمن، هدف "حماس" ألا تنجح العملية السلمية لاعتقادها أن ذلك يعني سقوطها وانتهاء مبرر وجودها. لقد تأكدت "حماس" أن العملية جادة وهناك رغبة حقيقية عند الجميع في إنجاحها، فهي الفرصة التاريخية الأولى بعد جمود 7 سنوات. ثم جاء بوش مؤكداً التزامه، وسارت عمليات التفاوض بمباركة دول الاعتدال، وهذا ما شكل خطورة على "حماس" وأفقدها هدوءها. ولعلنا نتذكر أن جهود "حماس" لإجبار أبومازن على التفاوض معها على أساس الأمر الواقع باءت بالفشل، ومن هنا تفاقم شعورها بالعجز والإخفاق، خاصة أنها بانقلابها الدموي وجدت نفسها في عزلة والفشل يحيط بها من كل جانب. لقد تورطت ولا تستطيع التراجع؛ الشعب محاصر والخدمات متوقفة والمصانع معطلة وأكثر من 140 ألف عامل لا عمل لهم والكهرباء مقطوعة والمساعدات شحيحة... بينما غريمتها "فتح" تحقق نجاحات متوالية وتكتسب مزيداً من الشعبية في وقت انحسرت فيه شعبية "حماس". وقد ضمنت السلطة دعماً مالياً بمبلغ 7.4 مليار دولار من الدول المانحة... فماذا تفعل "حماس" لتغيير الوضع؟ لا حل إلا بتفجير الوضع عبر سياسة الهروب إلى الأمام بإطلاق بضعة صواريخ ليأتي الانتقام الرهيب ويدمر البلد ويموت الناس وكل ذلك غير مهم... المهم أن تفشل عملية السلام وتبقى "حماس" في الصورة ويملأ قادتها الفضاء الإعلامي بصراخهم وتصريحاتهم وزعيقهم باعتبارهم أبطال المقاومة، الرجال في زمن عزّ فيه الرجال... هدف "حماس" من إفشال المفاوضات هو إرسال رسالة لأميركا بأنها رقم صعب لا يمكن تجاهله وأن بإمكانها عرقلة السلام. واهمٌ من يظن أن "حماس" تقبل الشراكة في السلطة أو تريد حكومة وحدة وطنية، وإذا قبلت فلفترة مؤقتة ثم تنقلب عليها، لأنها ترى نفسها الممثل الحقيقي للفلسطينيين ولذلك فهي لا تطيق غريمتها -"فتح"- بدليل أنهم عندما استولوا على غزة وصفوه بـ"فتح مكة" وسجدوا شكراً بالنصر المبين على "فتح"، وميثاق حماس يعتبر المنظمة "ضالة" لأنها "علمانية" ولذلك لا يترددون في تكفير وتخوين أبومازن، حتى أنهم حاولوا التآمر على قتله. لقد وصلت العداوة أن صرح الزهار بأن إسرائيل لو انسحبت من الضفة ستحتلها "حماس"، يفضلونها محتلة بيد إسرائيل ولا محررة بيد السلطة! ما الذي حرّك "حماس" في هذا الوقت؟ إنه "أنابوليس" الذي هز كيانها وأفقدها توازنها وهدوءها الذي التزمت به 7 شهور. ونتذكر أن "حماس" نظمت مسيرات احتجاجية ضد المشاركين العرب في المؤتمر، وقال هنية: "عباس لا يمثل الشرعية والفلسطينيون، غير ملتزمين باتفاقه". وتعهدت "حماس" بتوسيع عملياتها ضد إسرائيل بعد مؤتمر الفصائل بدمشق، ثم أخيراً نفذت حماس تهديدها وأطلقت الصواريخ حتى إذا وقعت الكارثة اتهمت عباس بأنه "بتفاوضه مع إسرائيل وفر الذريعة والغطاء لمجازر إسرائيل ضد شعبنا..."، وكأن "حماس" لا تدري من وفر الذريعة! نعم لا مانع لدى "حماس" من تجويع شعبها، لا قيمة للبشر، لا أهمية للأطفال والنساء بتوريطهم في مخططاتها السياسية. حكمة الرئيس مبارك أنقذت الفلسطينيين وخففت معاناتهم وقد أصبحوا اليوم "رهائن" لدى "حماس" تستغلهم، ولا مانع لديها من تعريضهم لكارثة أخرى! ستستمر معاناة أهل غزة على يد "حماس" ما دام معظمنا لا يجرؤ على كشف خطاياها أمام الرأي العام، وستستمر "حماس" في أخطائها في ظل عدم وجود من يحاسبها ويقول لها: أخطأت. وأخشى في النهاية أن أقول: وعلى الاعتدال العربي السلام.