"إذا لم يكن لديهم الوقود فما عليهم سوى أن يمشوا على الأقدام"... هكذا صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت" تعليقاً على الحصار الخانق الذي فرضته حكومته على قطاع غزة، والذي يحرم الفلسطينيين، من بين أشياء أخرى، من الوقود الضروري لتوليد الطاقة. غير أن "أولمرت" لم يكن يعرف بأن توقعاته ستتحقق، لكن ليس في الاتجاه الذي كان يريد. فقد اعتاد المدنيون الفلسطينيون منذ فترة طويلة على المعاناة، إلا أن الحصار الأخير فاقم من الوضع الإنساني ودفع به إلى شفير الانهيار. وحتى لو اكتفى الفلسطينيون من سكان غزة بالمشي على الأقدام في ظل غياب الوقود بدل استعمال سياراتهم، فإنهم سيحرمون من الخدمات الصحية في المستشفيات بسبب انعدام الوقود. وفي هذا الإطار، انتقدت بعض المنظمات الإسرائيلية الناشطة في مجال حقوق الإنسان الابتزاز الذي تمارسه السلطات على أهالي قطاع غزة الذين تشترط عليهم، لتلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية، التعاون مع الأجهزة الأمنية ومدهم بالمعلومات. وعندما بدأت تختفي المواد الغذائية في الأسواق حذرت فعاليات دولية من صعوبة الوضع الإنساني في غزة وقرب انفجاره في ظل تجاهل الدول الغربية التام لما يجري تحت أنظارهم. وقد كانت الخطة الإسرائيلية تستند إلى تضييق الخناق على الغزيين إلى درجة لا تحتمل بهدف دفعهم إلى الانقلاب على قادة "حماس" الذين يديرون القطاع. لكن يبدو أن الحكومة الإسرائيلية، قد غاب عن بالها قاعدة أساسية تقول: كلما اشتد الضغط على شعب معين، فإنه يلتف حول قادته، لا سيما في ظل وجود تهديد خارجي يهدد وجود هذا الشعب كما هو الحال بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وهكذا بدلاً من إضعاف "حماس"، ساهم الحصار الإسرائيلي في تقوية شوكتها وتعزيز شعبيتها، وبخاصة بعدما قررت الحركة الإسلامية تدمير الحاجز الحدودي الذي يفصل غزة عن مصر. فقد تدفق الآلاف من الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية بحثاً عن مختلف أنواع البضائع التي باتت نادرة في غزة بعدما اشتد عليهم الخناق، أو فقط بهدف الخروج من السجن الكبير الذي حشرتهم فيه إسرائيل واستغلال اللحظات القليلة التي أُتيحت لهم لرؤية العالم. وبالطبع وجدت مصر نفسها أمام معضلة حقيقية تتطلب تعاملاً من نوع خاص أملته الظروف المستجدة على الأرض، التي لم تكن تنتظرها. فليس وارداً بالنسبة لمصر منع الفلسطينيين من التزود باحتياجاتهم الضرورية والتسبب في كارثة إنسانية، كما أنها لا تستطيع التدخل العنيف ضد سكان غزة في مشهد يجعلها أقرب إلى المحتل الإسرائيلي منها إلى البلد العربي المتعاطف مع محنة فلسطين. لقد قرر الرئيس المصري حسني مبارك في مرحلة أولى ترك الفلسطينيين يدخلون المدن المصرية القريبة من قطاع غزة. غير أنه في الوقت نفسه حرص على ألا يتجاوز الفلسطينيون المدن المجاورة للحدود وألا يتوغلوا عميقاً في الأراضي المصرية، أو أن يستقروا فيها. لكن هل يمكن إعادة الجني إلى قمقمه؟ وهل تستطيع مصر مرة أخرى إغلاق الحدود بشكل تام يستحيل خرقها من قبل الفلسطينيين؟ يبدو أن الوضع على الحدود أعقد من أن تحله هذه الإجراءات البسيطة، التي لن تحول دون معاودة سكان غزة دخول الحدود كلما اشتدت عليهم العقوبات الإسرائيلية وضاق بهم القطاع المكتظ بسكانه. لذا كانت مصر على حق عندما أدركت بأن الحل يكمن في ترتيب اتفاق مع "حماس" من جهة ومع تل أبيب وواشنطن من جهة أخرى لتنظيم إدارة المعابر بين غزة ومصر. أما إسرائيل، فهي تتذرع بالصواريخ التي تُطلق من قطاع غزة وتستهدف المدن والبلدات الإسرائيلية في الجنوب لإحكام الخناق على الفلسطينيين وإبقاء سيف العقوبات مسلطاً على رقابهم. ويصر القادة الفلسطينيون من جهتهم بأن مجموع الصواريخ التي أطلقت على الدولة العبرية لم تخلف سوى أربعة قتلى من الإسرائيليين في حين أن القصف الإسرائيلي وعمليات الاجتياح المتكررة التي تنفذها الدولة العبرية أودت بحياة ألفي فلسطيني. لكن إذا كان إطلاق صواريخ "القسام"، كما يقول مسؤولو "حماس"، ليس سوى ذريعة تلجأ إليها إسرائيل لتبرير عدوانها على الشعب الفلسطيني، فلماذا الإصرار على إطلاقها بدل وضع حد لها؟ فلو أوقفها الفلسطينيون لتعزز موقفهم أكثر في أنظار المجتمع الدولي الذي لن يبخل بتعاطفه مع الفلسطينيين في هذه الحالة، كما أن "حماس" ستزعج إسرائيل أكثر إذا ما نقلت عمليتها الأخيرة من الحدود المصرية إلى نظيرتها الإسرائيلية في تحرك سلمي يحرج الدولة العبرية أمام العالم. فماذا تستطيع السلطات الإسرائيلية فعله لو قرر عشرات الآلاف من الفلسطينيين اختراق الحدود التي تفصل غزة عن إسرائيل؟ فمهما وصلت درجة التعاطف والتفهم التي يغدقها المجتمع الدولي على إسرائيل والتجاهل الذي تبديه أحياناً القوى الغربية حيال تصرفاتها الأكثر قسوة، إلا أنها لن تسمح لإسرائيل بإطلاق النار على حشود المدنيين دون عقاب. ولا شك أن هذه المسيرة السلمية، سيكون لها أثر استراتيجي يفوق بكثير الصواريخ عديمة الجدوى من الناحية العسكرية التي يطلقها الفلسطينيون، والتي تأتي بنتائج سياسية عكسية. وفي خضم كل ذلك خرجت "حماس" من التحركات الأخيرة على الحدود مع مصر باعتبارها الفائز الأكبر لأنها نجحت في تكريس نفسها كلاعب رئيسي لا يمكن تجاهله، وذلك رغم العزلة الدولية المفروضة عليها. لكن إسرائيل خرجت أيضاً بنقطتين لصالحها، أولاها أنها كرست الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية لتبعد بذلك حلم الدولة الفلسطينية المتصلة جغرافيا. أما النقطة الثانية والتي أثارها التحرك الشعبي الأخير لسكان غزة باتجاه مصر وتصب في صالح النظرة الإسرائيلية للقضية الفلسطينية فتتمثل في احتمال ترك الفلسطينيين لأراضيهم والرحيل عنها كما تتمنى إسرائيل. فكثيراً ما يبرز إغراء الرحيل عندما تشتد وطأة العقوبات على الفلسطينيين وتتدهور أوضاعهم الإنسانية. وإذا كانت القوى المحتلمة تسعى دائماً إلى كسب ود الشعوب المحتلة واستمالتها إلى جانبها، فإن إسرائيل لا تحاول حتى ذلك، وكل ما تتمناه، حسب بعض الدوائر، هو أن يرحل الفلسطينيون بعد أن يفقدوا صبرهم ويبلغ بهم السيل الزبى.