قلنا في المقال الأخير إن الإصلاح والتجديد في الثقافة العربية, يجب أن يستهدفا أولاً وقبل كل شيء إنشاء مرجعية ثقافية عربية واحدة عامة, مرجعية/ أُم ترتبط بها جميع المرجعيات الفرعية. وأكدنا على أن إنشاء مثل هذه المرجعية التي تصل الماضي بالحاضر في اتجاه المستقبل يتطلب تبني ما أسميته بـ"استراتيجية التجديد من الداخل", استراتيجية تتحرك على محورين متكاملين: محور النقد وإعادة الترتيب والبناء لتراثنا الثقافي بمختلف منازعه وتياراته, ومحور التأصيل الثقافي لقيم الحداثة وأسس التحديث. تحدثنا عن المحور الأول في المقال السابق، وسنخصص هذا المقال لما أقصده بـ"التأصيل الثقافي لقيم الحداثة وأسس التحديث". يتعلق الأمر أساساً ببناء جسور تنقل "الحاضر" إلى الماضي ليتأصَّل فيه. إن الاتجاه في المحور الأول هو من الماضي إلى الحاضر, أما في المحور الثاني فهو من الحاضر إلى الماضي. في المحور الأول عملنا, ويجب أن نواصل العمل على إعادة بناء تراثنا بصورة تجعله موصولاً بحاضرنا مستجيباً لاهتماماتنا ولروح عصرنا. أما في المحور الثاني فيجب أن نعمل على تبْيئة وتأصيل قضايا الحاضر, قيم الحداثة وأسس التحديث, في ثقافتنا وذلك بإيجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا: وعينا الديني والأخلاقي, وعينا الثقافي العام. ونحن نعتقد أن الديمقراطية (بما فيها حقوق الإنسان) والعقلانية (بما فيها الروح النقدية), لا يمكن غرسهما فكراً وممارسة في المجال التربوي -وهو العمود الفقري لكل تجديد ثقافي يتجه إلى المستقبل- إذا لم يتم تأصيلهما في النظام الثقافي عموماً والنظام التربوي خصوصاً، أو على الأقل إذا لم تؤطرهما عملية التأصيل هذه. ذلك ما حصل في أوروبا ذاتها, فقضايا حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية والروح العقلانية والنزعة النقدية... الخ. وغيرها من القضايا التي تشكل قيم الحداثة وقوام التحديث لم تترسخ ولم تتوطد في النظام الثقافي الأوروبي نفسه إلا بعد أن تم تأصيلها فيه, أي بعد أن ربطت بـ"أصول" كُشِف عنها داخل هذا النظام نفسه أو وضعت فيه وضعاً, ثم نقلت إلى المدرسة, عن طريق المعلم والكتاب, لتصبح جزءاً من نظام التعليم بما فيه الامتحانات. وكم سنكون مخطئين - \ونحن كذلك منذ زمان- إذا نحن اعتقدنا أنه من الممكن غرس قيم الحداثة في مجتمعنا العربي بمجرد نقلها إليه أو بالعمل على "التوفيق" بينها وبين القيم السائدة عندنا. إن الجديد الذي ينبت في مجتمع معين لا يمكن نقله ناضجاً إلى مجتمع آخر مختلف إذا كان الأمر يتعلق بالأفكار والقيم, بل لابد من العمل على استنباته فيه وتبيئته مع المعطيات الخاصة بالمجتمع المنقول إليه. ذلك ما نقصده بـ"التأصيل الثقافي". إن نقل قيم الحداثة وعناصر التحديث إلى المجتمع العربي -وهو العملية التي بدأت منذ قرن أو يزيد- نقلاً ميكانيكياً بدون تأصيل, جعل وجودها وحضورها فيه يعاني مما نعرفه من نكوص وانتكاس, بل إن عدم تبيئة تلك القيم في نظامنا الثقافي، وبالخصوص في الجانب التربوي منه، هو من العوامل الأساسية في الانشطار الذي يعبر عن نفسه من خلال الازدواجية المترسخة في مجتمعنا وثقافتنا... والقضية الثقافية الأساسية في مجتمعنا هي هذه الازدواجية نفسها، التي يعاد إنتاجها باستمرار: كيف نتجاوزها؟ إن القضية مرهونة فعلاً بالتطور الاقتصادي الاجتماعي, ولكن مع ذلك لها بعد ثقافي خاص في مجتمعنا العربي. ونستطيع إدراك خصوصية هذا البعد إذا نحن قارنا بين ثقل الثقافي عندنا (عقيدة وشريعة ونظام فكر وتقاليد وعادات) وبين ثقله في مجتمعات أخرى كالمجتمعات الأوروبية. وليس صحيحاً أن "الثقافي" عندنا مجرد عنصر في بنية فوقية تابعة للقاعدة المادية للمجتمع, بل الصحيح أن يقال إنه عنصر في بنية كلية يتبادل فيها "الفوقي" و"التحتي" المواقع، أو يتداخلان بصورة تجعل من كل منهما فاعلاً ومنفعلاً في نفس الوقت، وهذا ما يزيد من استقلالية الثقافي, ويجعل التجديد فيه شرطاً للتجديد في ميادين أخرى. لنأخذ كمثال مسألة حقوق الإنسان التي تستأثر اليوم بالاهتمام على نطاق عالمي, وهي مسألة ثقافية قبل كل شيء, بل هي نموذج لاستقلال "الثقافي" عن الاقتصادي والاجتماعي, من الناحية المبدئية على الأقل, إذ لا أحد يرهن حق الفرد في التمتع بـ"حقوق الإنسان"، في صيغتها المتعارف عليها اليوم, بوضعه الاقتصادي أو الاجتماعي! ومن هنا عالمية تلك الحقوق. فعالمية حقوق الإنسان لا تصطدم ولا تتناقض لا مع الوضع الاقتصادي ولا مع الوضع الاجتماعي, ولكنها بالمقابل تصطدم بالخصوصية الثقافية عندما ينظر إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه نتاج الحضارة الغربية وحدها. والتأصيل الثقافي لقيم الحداثة المعاصرة بالنسبة لنا نحن العرب يقتضي في هذا المجال إبراز عالمية حقوق الإنسان في كل من الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية, أعني كونها تقوم في الثقافتين على أسس "فلسفية" واحدة. أما الاختلافات فهي لا تعبر عن "ثوابت ثقافية", وإنما ترجع إلى اختلاف المعطيات الظرفية. أما المقاصد والأهداف فهي واحدة. والرجوع إلى "الظرفي", أمر "ضروري" وأكيد لفهم المعقولية التي تؤسس ذلك الاختلاف، أي ما يسميه فقهاء الإسلام بـ"الحكمة": ويقصدون الأغراض التي توخاها الشارع, أو قد يكون توخاها, من نوع الحكم الذي أصدره في هذه القضية الظرفية أو تلك. وإذن فمعقولية الحكم, بهذا المعنى, أمر ضروري أيضاً لتجنب الانزلاق إلى ذلك الخطأ المنهجي الخطير الذي يقع فيه كثير من الناس حين يحاكمون أمور الماضي بمقاييس الحاضر ومشاغله، أو حين يقرؤون الماضي بمعطيات الحاضر الراهن، أو بما هو مأمول في المستقبل. إن حقوق الإنسان كما قررها الإسلام زمن النبوة والصحابة لا يجوز الحكم عليها, صيغة ومضموناً, بمقاييس حقوق الإنسان المعاصر, إنسان القرن العشرين: فلتلك معقوليتها ولهذه معقوليتها. وما نعنيه هنا بـ"التأصيل الثقافي" ليس التوفيق بين المعقوليتين ولا تضمين الواحدة منهما في الأخرى, كلا. إن ما نعنيه بالتأصيل الثقافي لحقوق الإنسان في فكرنا العربي المعاصر هو إيقاظ الوعي بعالمية حقوق الإنسان داخل ثقافتنا, وذلك بإبراز عالمية الأسس النظرية التي تقوم عليها والتي لا تختلف جوهرياً عن الأسس الفلسفية التي قامت عليها حقوق الإنسان في الثقافة الغربية. ومن هنا يبرز الطابع العالمي- الشمولي الكلي، لحقوق الإنسان من داخل الخصوصية الثقافية نفسها, ويتأكد مرة أخرى أن الخصوصية والعالمية ليستا على طرفي نقيض, بل بالعكس, هما متداخلتان متضايفتان: في كل "خاص" شيء ما من "العام", كما أن "العام" ليس كذلك إلا لكونه يضم ما هو "عام" في كل نوع من أنواع "الخاص". وما قلناه عن حقوق الإنسان يمكن قوله عن القيم العصرية الأخرى (انظر مساهمات لنا في هذا المجال, في كتابنا: "الديمقراطية وحقوق الإنسان"). وغني عن البيان القول إن التأصيل الثقافي لقيم الحداثة في فكرنا لن يمر بدون نقاش أو اعتراض, ولكن النقاش والاعتراض في هذا المجال هو نفسه طريق التأصيل. إن النقاش والاختلاف حول التأصيل هما الطريق السلمي الديمقراطي لتأسيس الأصل. وبعد، فعنوان الموضوع الذي اقترح عليَّ لهذه المحاضرة "مشهد الثقافة العربية منذ الخمسينيات" يتطلب الاختيار بين منهجين في البحث: إما سلوك المنهج التاريخي لرصد مراحل تكون هذا المشهد بإبراز مكوناته في تتابعها الزمني، وإما سلوك المنهج الارتدادي بالانطلاق من هذا المشهد كما هو في الوقت الراهن والرجوع القهقرى للكشف عن مكوناته ومراحل تطوره. لقد اخترت المنهج التحليلي التاريخي لأنه قُـدِّر لي أن أعيش الموضوع من داخله ومنذ بدايته حتى الآن، فأنا مشاهِد ومشاهَد في الوقت نفسه: كنت في الشارع أطل على نفسي من النافذة؟ كنت حاضراً في الموضوع بدراسات ومحاضرات ومؤلفات، ولا زلتُ. أما إذا طلب مني أن أعكس المنهج لأنطلق من المشهد الثقافي العربي كما هو في الوقت الراهن، لأتحدث عن مكوناته ومراحل تطوره كما يفعل الأركيولوجي، فأنا على استعداد لأعترف أن هذا المشهد يبدو لي كمن يرى صورته في مرآة مهشمة. لذلك فضلت أن أتكلم من داخل المرآة وليس عما يمكن أن أراه على سطحها. أما وقد وجدت في نفسي ما يكفي من الرغبة في "الحفر الأركيولوجي" فسيكون عليّ البدء بـ"إعادة تثبيت أجزاء المرآة".