حين نتحدث عن "العرب"، فإننا ندرك ضرورة الحذر من ظاهرة التعميم، التي تُقصي التمايزات والاختلافات بين بلد عربي وآخر، وبين مجموعات عربية وأخرى وفق الشروط والظروف التاريخية المحيطة بهؤلاء وأولئك. فالمسارات الخاصة بمصر واليمن وسوريا وموريتانيا والإمارات العربية المتحدة والصومال إلخ مثلاً، ليست متماثلة، نقول، إذن بوجود تلك التمايزات والاختلافات، كما نؤكد - من طرف آخر - على روابط ومشتركات بين البلدان العربية، تتجلى في اللغة والثقافة وكثير من حقول الماضي، وكذلك من الأهداف والتطلعات المستقبلية. ويهمنا،هنا، الكلام على ما يمثل أحد تلك المشتركات الحديثة والمعاصرة، وهو التعثر، حتى الآن، في إنجاز مشاريع التغيير والتحديث والتطوير الديموقراطي، أو القريب من الاستراتيجية الديمقراطية؛ وهي- في الأساس - مشاريع تطرحها النظم العربية ذاتها، دون جدوى. وهنا يبدو الأمر كما لو كان "عجزاً فطرياً" في كيانات تلك النظم؛ ولكنه - فيما نرى - ليس كذلك. وقد نلاحظ أن مصادر غربية استشراقية وعرقية إضافة إلى مصادر عربية، سوغت القول بمثل ذلك "العجز" حين راحت تسوق ثنائية "التخلف والتخليف". فهذه الثنائية أتت لرفض الغطاء التاريخي للتخلف، الذي يعتبر - في هذه الحال - وضعية "تاريخية" كما أتت ضمن ظروف تاريخية معينة، يمكن تجاوزها، كذلك، في وضعية تاريخية أخرى، من هنا، جاء التخليف بمثابته تكريساً للتخلف وتأبيداً له. النظم العربية أو معظمها - على الأقل استخدمت تلك الثنائية الأخيرة في مشاريعها المعنية، دون الإعلان عنها مباشرة، وذلك حين دافعت عن أن التغيير الديمقراطي له خصوصياته العربية أولاً، وحين أكدت أن الشعوب العربية لم تبلغ بعد سن الرشد؛ مما ينتج أحوالاً من الفوضى إذا ما فتح ملف ذلك التغيير، إذن، فليؤجل ذلك إلى لحظة ما قادمة، وقد لا تقوم في التاريخ المنظور. لكن الموقف الأكثر حضوراً في الاستراتيجية العربية الخاصة بملف التغيير المذكور، قد يتمثل في الأطروحة التالية: نحن نأخذ من الآخر (أي الغرب) ما يتوافق مع قيمنا وتقاليدنا وخصوصيتنا؛ أما ما ليس كذلك، فنضرب صفحاً عنه. وقد اتضحت هذه الأطروحة على أرض الواقع العربي العيني بثنائية جديدة تقوم على "التوحيد" بين التكنولوجيا الغربية والأيديولوجيا الشرقية (العربية)، ولكن على أساس الحفاظ على خصوصية كل من الطرفين، بحيث لا يجوز لهذا أن يخدش ذاك ولا لذاك أن يخدش هذا، وبتعبير آخر أكثر دهاءً، يُقال: كل من الطرفين يحترم الآخر، ولا يتدخل في خصوصيته وشؤونه ومن ثم، نحن نفتح أبوابنا لكل وافد من حقل التكنولوجيا؛ أما ما يخص الأيديولوجيا (هنا: منظومة القيم الدينية والأخلاقية والسياسية)، فحديث آخر. ها هنا، نغدو وجهاً لوجه أمام الفرْض الديني والعِرض الأخلاقي والتقليد الاجتماعي والاستبداد العادل والمحافظة على صفاء العروبة والحذر ممن لا يشاركوننا في الملة والتنبه إلى النظريات الفلسفية والسياسية الدخيلة إلخ. في هذه الحال، نحن منفتحون كل الانفتاح على أرقى وأحدث الإنجازات الصناعية والتكنولوجية والعلمية الطبيعية، وحيث نكون هنا، يجري الكلام على "تسخير العالم الغربي لنا" بأن ينتجوا هم، وبأن نستهلك نحن. ويأتي ناتج الموقف بأن يتمثل في التلفيق بين الثابت من تلك الحقول المذكور (الديني والأخلاقي والاجتماعي الخ) من طرف، وبين المتحرك الذي نشتريه بأموالنا من الفرنجة من طرف آخر. وبهذا وبذاك يكون الوهم قد نبتَ في عروقنا بأننا إذ نملك من تكنولوجيا الفن ما نملك بـ "الحلال"، فإن هذا لا يعني أبداً التنازل عن تلك الحقول أولاً، ولا يعني كذلك أن نعلم أن تلك التكنولوجيا ليست تكنولوجيا "حاف"، وإنما هي - كذلك بل بالدرجة الأولى- تجسيد لمنظومة القيم العقلية والتنويرية والمنهجية في الغرب. وهكذا، تنشأ شخصيات عربية ملفّقة من مرجعيتين اثنتين، كل منهما تعيش لذاتها، فنحن في صفوف المستهلكين الأوائل تكنولوجياً، وفي صفوف الأسلاف وفق الحقول المعنية، وحيث يكون الأمر كذلك، فنحن الشرق الفنان، مقابل الغرب العالم، كما قال مرة زكي نجيب محمود. لكن إذا بقينا فنانين دون العلم، فإننا ننتج فناً خارج التاريخ كما أننا نخسر العلم، وكي لا نسمح باقتحام منظوماتنا التليدة الماضوية، يلزمنا التسلح بسيوف دون كيشوت الخشبية.