تقتضي المسؤولية الوطنية والقومية مواصلة الاهتمام بتداعيات الحصار الإسرائيلي الجائر لقطاع غزة، إذ أنه بدلاً من أن يفضي إلى نقطة انفجار جديدة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إذا به يبدو مصدر تهديد للعلاقات الفلسطينية- المصرية بعد ملابسات الاقتحام الفلسطيني للحدود مع مصر في واحد من أكثر المواقف دقة في هذه العلاقات، ذلك أن أي خطأ بسيط للسياسة المصرية في إدارة الأزمة التي نشأت بموجب هذا الاقتحام يمكن أن يفضي إلى ابتعاد مصر في توقيت بالغ الحساسية عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية إلى حين، وخسارة السياسة المصرية لقطاع من الرأي العام المصري بالاقتناع أو التضليل. أما الابتعاد "إلى حين" فلأن السياسة المصرية لم يكن بمقدورها أن تتجاهل هذه القضية في أي عهد من العهود بما في ذلك العهد الملكي السابق على ثورة يوليو 1952، والذي شهد أول حالة تدخل مصري مسلح في الصراع ضد إسرائيل عام 1948، وحتى الرئيس أنور السادات الذي ارتبط اسمه بمعاهدة سلام مع إسرائيل، وشهد حكمه توتراً فائقاً في العلاقة مع الفلسطينيين، كان حريصاً على أن يبدو دائماً وكأنه يسعى لسلام شامل وليس لتسوية منفردة مع إسرائيل، بدليل إصراره على التوصل إلى "إطار للسلام في الشرق الأوسط" في كامب ديفيد 1978، بالإضافة إلى الإطار الثنائي الذي مهد للمعاهدة مع إسرائيل بغض النظر عن رفض الفلسطينيين والعرب للإطارين معاً. ولم تكن مصر بهذا الاهتمام المتواصل تمنُّ على الفلسطينيين بشيء، وإنما كانت تعنى أساساً بأمنها الوطني الذي لاشك أن بروز دولة استعمارية استيطانية على حدودها الشمالية الشرقية يهدده، وهذا بالإضافة إلى اعتبارات العروبة والإنسانية. وأما كون أي خطأ بسيط في إدارة السياسة المصرية للأزمة التي نجمت عن اقتحام معبر رفح يمكن أن يؤدي إلى خسارة هذه السياسة لقطاع من الرأي العام المصري بالاقتناع أو التضليل فمرده أن الرأي العام المصري قد تفاعل دون شك مع الحصار واستشاط غضباً من لاإنسانيته، سواء لأن ثمة تواصلاً بشرياً حقيقياً مصرياً- فلسطينياً في منطقة التخوم على الحدود بين مصر وقطاع غزة، أو لأن قطاعات سياسية نشطة في الرأي العام المصري تعادي إسرائيل، أو لأن أقوى تيارات المعارضة المصرية -وهو تيار "الإخوان المسلمين"- يعتبر الأب السياسي لحركة "حماس" التي فُرض الحصار عليها أصلاً، أو لأن المصري العادي في النهاية كعربي وإنسان لا يمكن إلا أن يتعاطف مع الفلسطينيين في هذا الموقف العصيب. ولذلك ساد شعور بالارتياح عندما تدفقت مئات الألوف من سكان غزة في محاولة للتخفيف من وقع الحصار عليهم. غير أن "المصري العادي" في الوقت نفسه لم يكن على استعداد لأن يقبل بسهولة اقتحام حدوده على هذا النحو، خاصة بعد أن تأكدت بعض ملابسات الاقتحام التي جعلته أقرب إلى "عملية تحرير" منه إلى "عملية إغاثة"، وعلى ضوء الاختراق المتكرر للحدود، والاشتباك مع قوات الأمن المصرية وإصابة عدد من أفرادها، والأعمال الرمزية التي قام بها نفر من المقتحمين كرفع علم فلسطين على مبنى في مدينة مصرية، وتصريحات بعض قيادات "حماس" التي ذهب أحدها إلى القول إن ثمة "عملاً دراماتيكياً" كان مطلوباً لإنقاذ الشعب الفلسطيني من الاختناق تحت وطأة الحصار، والمقالات المصرية التي كتبتها أقلام تتحين أي فرصة لفصم العرى التي تربط مصر بفلسطين بل بالعروبة كلها. لا شك أن "حماس" قد أدارت أزمة الاقتحام بحسابات دقيقة قامت على استحالة أن تتعامل مصر مع الأزمة وكأنها إسرائيل، خاصة -للأسف- وأن وجود قوات مصرية في منطقة الحدود رمزية، ولاشك أن القيادة المصرية قد ردت على هذه الحسابات الدقيقة بأفضل منها، فتغاضت عن الاقتحام، ووفرت له غطاءً سياسياً إنسانياً يدين إسرائيل، وحاولت برفق وبدرجات متفاوتة -وإن متزايدة- النجاح في أن تحكم قبضتها على منطقة الحدود، وهو من أبسط حقوق السيادة ومقتضيات حماية أمن مصر ليس من الشعب الفلسطيني بطبيعة الحال وإنما من أية عناصر معادية يمكن أن تتسلل إلى داخل مصر ضمن تلك الأمواج الهائلة من البشر. غير أن الأزمة بغض النظر عن كل ما سبق قد تركزت الآن في أمرين أولهما عاجل وهو تنظيم عبور الفلسطينيين عبر منفذ رفح، وثانيهما آجل وهو توفير متطلبات تدعيم الموقف الفلسطيني والعربي بعد أن تدهور كثيراً منذ النصف الثاني من العام المنصرم. أما الأمر العاجل فتملك السياسة المصرية زمام المبادرة فيه إلى حد بعيد، بحيث تكون سياستها تجاه معبر رفح هي السماح بعبور البشر والسلع من غذاء وأدوية ووقود وغيره لاعتبارات إنسانية، مع محاولة توفير غطاء قانوني لهذه السياسة، ذلك أن اتفاقية المعابر التي تتمسك بها إسرائيل لا تسمح بمثل هذا العمل، ولذلك فإن إقدام مصر عليه سوف يمثل نقلة مطلوبة في سياستها تجاه المعابر وغزة والقضية الفلسطينية برمتها، وهي مطلوبة لأن السياسة الإسرائيلية قد أمعنت في الاستخفاف بالفلسطينيين والعدوان على حقوقهم إلى الحد الذي عرّض مصر للأزمة الأخيرة وهدد أمنها. وأمعنت كذلك في الاستخفاف بالرغبة المصرية في مراجعة بنود المعاهدة مع إسرائيل المتعلقة بتوزيع القوات في منطقة الحدود كي تكون أكثر قدرة على ضبطها. لذلك فإن من حق مصر أن تعيد النظر في اتفاقية المعابر، وخاصة أن قاعدة "تغير الظروف" تبرر هذا، بعد أن أصبحت "حماس" هي القوة الفعلية في غزة، ولا يمكن تجاهل وجودها طالما بقيت الأوضاع على ما هي عليه في القطاع. ومن حسن الحظ أن قيادة "حماس" طرحت مؤخراً بعض الأفكار المعقولة لتنظيم فتح معبر رفح تضمنت القبول بمشاركة السلطة الوطنية الفلسطينية (أي الرئاسة) في إدارة المعبر، وعدم الممانعة في قبول وجود أوروبي على ألا يكون بمقدوره إغلاق المعبر. ومثل هذا الاقتراح بعد تطويره وتهذيبه يمكِّن من وصل قطاع غزة بعمقه المصري والعربي وإفشال الحصار الإسرائيلي عليه بعيداً عن كل الاتهامات باستخدامه لتهريب الأسلحة طالما أن هناك مراقبين أوروبيين. وكذلك سيكون ممكناً بعد التوصل إلى تنظيم العبور على الحدود المصرية- الفلسطينية وأد أية أفكار مرفوضة عن عودة القطاع إلى مصر، أو أية أفكار من هذا القبيل. لكن المسألة بالتأكيد لا يمكن أن تقف عند هذا الحد وإلا أصبحنا كمن وقف أمام شجرة ضخمة حجبت عنه رؤية الغابة مترامية الأطراف، ونقطة الانطلاق هنا أن المشروع الوطني الفلسطيني لا يمكنه أن ينجح على يد "حماس" وحدها أو "فتح" وحدها، ولنتذكر أن الذين انقسموا على أنفسهم في حركات تحرر وطني سابقة كانوا يقاتلون العدو بالإضافة إلى قتالهم أنفسهم، لكن قتال العدو توقف في حالتنا من الطرفين. ولتقبل "حماس" استعدادها للعودة إلى الوضع السابق في غزة بضمانات معينة، ولتقبل "فتح" بدء الحوار قبل هذه العودة وخاصة أن قيادتها تحاور إسرائيل منذ سنوات دون أن تشترط عليها شيئاً، وليتجاوز الحوار موضوع توزيع "مغانم السلطة الوطنية" إلى الحديث عن جدوى بقائها، طالما أن إسرائيل تتصرف وكأن هذه السلطة غير موجودة في غزة والضفة معاً، وإلى حديث أهم عن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تعكس الواقع الفلسطيني الحالي تمهيداً للتوصل إلى استراتيجية جديدة لنضال الشعب الفلسطيني تنطلق من رؤية واضحة، وتأخذ بكل الأساليب المتاحة من أجل استعادة حقوق هذا الشعب، وتبني جسوراً ضرورية مع ظهيريها المصري والعربي.