لقد فرحت جماهير مصر وفلسطين ومعها جميع الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، من المغرب إلى البحرين بما حدث أخيراً على الحدود المصرية- الفلسطينية، واقتحام الجماهير العربية في فلسطين بوابة رفح، وفتح ثغرات في الحائط الإسمنتي والحديدي بين مصر وفلسطين على حدود قطاع غزة الجنوبية لفك الحصار عن الشعب الفلسطيني في القطاع منذ ثمانية أشهر أو يزيد عقاباً لـ"حماس" على ما قامت به من استيلاء على السلطة في القطاع. وقد وصل الحصار إلى حد تهديد مليون ونصف فلسطيني بالموت جوعاً أو عطشاً أو مرضاً. وثبت أن إرادة الحياة أقوى من الحصار، وأن اتصال الشعوب العربية أقوى من الحدود الفاصلة بينها، وأن الصراع بين "فتح" و"حماس" على السلطة في الأرض المحتلة الذي كاد يضحي بالوطن وبالشعب يتهاوى أمام إرادة الشعوب. فالوطن له الأولوية على السلطة. والشعب له الأولوية على الدولة. وقد سبق لدريد لحام التعبير عن هذه الأزمة في فيلم "الحدود". لقد استطاع الطبيعي أن يهزم المُصطنع، واستطاع التاريخ أن يهزم الجغرافيا، والبشر أقوى من الحجر. وقد سقط حائط برلين من قبل تحت قوة وحدة الشعب الألماني. كما سيسقط عن قريب الجدار العنصري العازل بين فلسطين 1948 وفلسطين 1967 تحت ضغط الشعب الفلسطيني وكل القوى المناصرة للسلام. ولم تستطع لا أميركا ولا إسرائيل ولا أوروبا إلا أن تعترف باستحالة الحصار وتجويع شعب. فإنكار الحقائق له حدود. والنزعة الإنسانية تفرض نفسها على أي منكر لها أو مستعمل للمعيار المزدوج فيها. إنما فقط هي منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي تتصارع فيه القوى الدولية وتسيطر عليه الولايات المتحدة هو الذي شكك في الأمر، ونفى ما هو بادٍ للعيان. ولم يتفق على ضرورة رفع الحصار بدعوى تهديد أمن إسرائيل بإطلاق الصواريخ عليها. وفرق بين أمن إسرائيل واحتلال إسرائيل. إن كل الحدود الموضوعة في الوطن العربي وفي أفريقيا كلها التي تبلغ ثلث دول العالم من وضع الاستعمار. وكان شرط الاستقلال الوطني عدم المساس بها للإبقاء على تجزئة الشعوب، الشعب العربي، وتمزيق القارات، أفريقيا. وفي الوطن العربي وعلى رغم لغته الواحدة وشعبه الواحد إلا أن هناك نزاعات حدودية بين كثير من الدول العربية المتجاورة. بل يمتد النزاع بين العرب ودول الجوار، بين سوريا وتركيا حول لواء الإسكندرونة. وهناك عرب في ديار بكر في تركيا، وعرب في عبدان في إيران "عربستان". وقديماً كان المسلمون يسيرون من إسبانيا إلى الصين عبر أفريقيا وآسيا وليس عبر أوروبا. لا أحد يسألهم هوية أو بطاقة أو جواز سفر أو تأشيرة دخول أو يجد نفسه على قوائم الممنوعين من الدخول على الحدود. وقد نشأت تجارب سابقة لتآكل الحدود وابتلاعها وسط حركات الشعوب مثل محافظة التكامل بين مصر والسودان في وادي حلفا. فلا حدود بين جنوب مصر وشمال السودان. ويمكن تعميم نفس النموذج على كل المناطق الحدودية المتنازع عليها بين أي قُطرين متجاورين. فالشعوب قادرة على جعل الحدود تتآكل. وفكرة الحدود الجغرافية بالبحر والنهر والوادي والسهل وافدة من الخارج من القرن التاسع عشر الغربي عندما سقطت الإمبراطوريات الكبرى النمساوية والفرنسية والروسية من أجل العودة إلى الحدود القُطرية لكل بلد. منها تنبع الهوية والمواطنة. وزرعت الحدود في الوطن العربي والعالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة في نفس الظروف. وبعد حركات التحرر الوطني وبروز القومية العربية ونشاط الحركات الإسلامية بدت الحدود مصطنعة تقطع بين الوحدات المتكاملة. صحيح أن تجارب الوحدة المعاصرة الفورية لم تنجح مثل تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا 1958- 1961 لعدة أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية على رغم إيمان الشعبين المصري والسوري، والقيادتين المصرية والسورية بالوحدة. وصحيح أن اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا والعراق واليمن لم يتم لنفس الأسباب. وصحيح أيضاً أن تجربة مجلس التعاون الخليجي أكثر نجاحاً للتشابه في الأسس الجغرافية والتاريخية والتجانس في الدخول القومية ومستويات المعيشة. وكذلك التجربة الاتحادية التي حققتها دولة الإمارات العربية المتحدة سلماً، ووحدة الجمهورية اليمنية التي تمت صيانتها حرباً حفاظاً على وحدة الشمال والجنوب. وصحيح أيضاً أن مجالس التعاون الثنائية بين قطرين عربيين لمجرد التنسيق بينهما وزيادة مستوى التبادل التجاري واقعة مريرة مثل مجالس التعاون بين مصر وتونس، ومصر والمغرب، ومصر والأردن، ومصر وسوريا...الخ، ولكن واقع التجزئة مرير، وفرض التأشيرات على الانتقال من قطر عربي إلى قطر عربي آخر وقوائم الممنوعين من السفر على الحدود تجعل العرب في مستوى أقل من الاتحاد الأوروبي ودون "شينجن" عربي. وصحيح أن تجربة الجامعة العربية هي الحد الأدنى من التعاون العربي، بيت للعرب، ولكنها جامعة بين أقطار عربية ذات سيادة وإرادة مستقلة يصعب إجماعها على قرار واحد نظراً لتضارب المصالح والأهواء مما استدعى كثرة الدعوات إلى إصلاح الجامعة أو استبدالها كلية وتأسيس جامعة الشعوب العربية بدلاً منها. ولم تنجح تجارب المنظمات العربية الإقليمية الإدارية مثل منظمة العمل الإدارية، والدستورية مثل اتحاد البرلمانيين العرب، والإعلامية مثل اتحاد الإعلاميين العرب، والعلمية مثل اتحاد المؤرخين العرب، والعسكرية مثل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، والاقتصادية مثل السوق العربية المشتركة، والتعليمية مثل اتحاد الجامعات العربية، والثقافية مثل التقرير السنوي لوزراء الثقافة العرب... الخ. وكان الأكثر نجاحاً هو الاجتماع السنوي لوزراء الداخلية العرب وتأسيس حاسب آلي مركزي موحد يضم أسماء الممنوعين والمشبوهين والخطرين على الأمن العام من كافة أطياف المعارضة السياسية، دينية أو قومية أو وطنية أو ماركسية. ولم تمنع هذه المنظمة الإقليمية من غزو العراق لإيران والكويت، ولا من غزو أميركا للعراق، ولا من استيلاء إسرائيل على كل فلسطين، ولا من غزو الحبشة للصومال، ولا من التدخل الأجنبي لحل قضية دارفور، ولا قضية الصحراء في المغرب، ولا في اختيار حكومة لبنانية واستحقاق الرئاسة. إن ما حدث من فتح المعابر بقوة الشعوب على الحدود بين مصر وفلسطين يثبت أن حركة الشعوب المقهورة قادرة على التحرير حتى ولو غابت الأشكال الديمقراطية البرلمانية والحزبية الصورية. حرية الشعوب لها الأولوية على ديمقراطية الحكم. الجوع قاتل لا ينتظر، والظلم مهين لا يستمر. والحصار يبعث على الانفجار كما يدفع الاحتلال إلى الانتفاضة. ما حدث على الحدود بين مصر وفلسطين هو انتفاضة ثالثة ضد الحصار كما كانت الانتفاضتان الأولى والثانية ضد الاحتلال الإسرائيلي. وأهم شيء في الحدث هو انتفاضة مصر، شعباً وقادة، في لحظة تاريخية مواتية مثل لحظة تأميم القناة في يوليو 1956، ومساندة الثورة اليمنية في سبتمبر 1964. وهو ما يثبت ما تستطيع صحوة مصر أن تفعل. هي الشرارة التي تندلع في الحطب الجاف من المحيط إلى الخليج. إذا صحت مصر صحا العرب. وإذا نامت مصر نام العرب. أما التخوف من الاستيطان في سيناء، ومن احتمال وصول فلسطينيين مسلحين إلى مدن القناة، ومن احتمال تهديد الأمن القومي لمصر فهو النغم النشاز وسط اللحن الشجي، هي البقعة السوداء على الرداء الأبيض، هي بقايا عقلية الحدود التي تجاوزتها انتفاضات الشعوب.