كان منطوق الإعلان الذي نشرته شركة "آل ستيت إنشورانس" للتشجيع على الادخار تحسباً لسنوات التقاعد هو: "إن الجيل الذي لا يثق بأي شخص تجاوز الثلاثين هو الجيل الذي لم يخطط أبداً لتقاعد يمتد لثلاثين عاماً". وما يقوله هذا الإعلان قد يكون مبالغاً فيه لأننا- نحن جيل الآباء- لم يخطر على بالنا أننا سنقضي 30 عاماً في الراحة والاسترخاء بعد تقاعدنا عن العمل لأسباب عدة، ليس أقلها أن كثيرين منا لا يستطيعون في الأصل توفير نفقات هذه السنوات الطويلة، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار المنازل وتذبذب أسعار البورصات بشكل يهدد بحدوث ركود اقتصادي عالمي. على ضوء ذلك يمكن القول إن جيلنا يتجه ليس نحو عهد من الإجازات المفتوحة، التي تمتد لثلاثين عاماً أو أكثر أو أقل، بقدر ما هو متجه نحو عهد يعمل فيه عدداً أكبر من السنوات مدفوعاً في ذلك بالرغبة في مواصلة العطاء في العمل لأطول فترة ممكنة، وبالحاجة إلى توفير الدخل الكافي الذي يمكنه من مواجهة أعباء الحياة المتزايدة خصوصاً على ضوء ارتفاع متوسطات الأعمار. ولكن ما الذي سيفعله جيل الآباء؟ وكيف سيقوم هذا الجيل الذي يعتبر الأكبر والأفضل تعليماً وصحة والأطول عمراً بقضاء النصف الثاني من عمره في العمل؟ هذا هو السؤال الذي فشل صُناع السياسة والساسة الغارقون في المشكلات الاجتماعية والأمنية ومشكلات الرعاية الصحية التي تواجههم في فهم مغزاه العميق. مجتمعنا، ومن خلال تقديم يد المساعدة للملايين الذين يبحثون عن النقود بالعثور على عمل يمكنهم من تحقيق ما يطمحون إليه، قادر على تحويل زيادة سنوات العمل إلى فضيلة اجتماعية. فمن خلال بناء طرق أفضل للوصول إلى المزيد من الوظائف "ذات الجوهر"- وهو المصطلح الذي أفضل استخدامه- فإننا نستطيع استثمار جيل الآباء، بل واستثمار موارد هائلة من الرأسمال البشري، في مجالات تكون الحاجة إليه على أشدها. إذا ما فعلنا غير ذلك، فإننا سنضيع عائداً مهماً يتمثل في الخبرات الواسعة التي حصل عليها هذا الجيل. إنني واحد من المنتمين إلى جيل الآباء ممن تجاوزوا الخمسين من أعمارهم، والذين يخططون- شأني في ذلك شأن الكثيرين من أبناء جيلي- للعمل لسنوات طويلة قادمة. ولقد قمت بجولة في معظم أنحاء الولايات المتحدة خلال العقد الماضي لجمع المعلومات وإجراء الأبحاث والاستقصاءات اللازمة للكتاب الذي أعكف على تأليفه وعنوانه: "السنوات الإضافية: العثور على عمل ذي أهمية في النصف الثاني من العمر"، والذي أهدف من خلاله إلى التوصل إلى برنامج للخدمة الوطنية، يعمل على حشد طاقات جيل الآباء من أجل تطوير المدارس الابتدائية الموجودة في المدن، والتي يدرس بها أبناء العائلات منخفضة الدخل، كما يهدف لإطلاق برنامج لمنح جائزة لمتعهدي العمل في المجال الاجتماعي ممن جاوزا الستين من عمرهم. ولقد قابلت خلال جولاتي تلك أعداداً لا حصر لها من الرجال والنساء الذين يبحثون عن وظيفة ثانية مناسبة، تحقق لهم هدف توفير الدخل وتحقيق الذات. وهؤلاء الرجال والنساء كانوا ينتمون إلى كافة مستويات الدخل والتعليم ممن اختاروا عدم التقاعد في النصف الثاني من حياتهم، وإنما التركيز على ما يعتبره الكثيرون منهم أخصب فترات حياتهم. فلو أخذنا حالة "فيلما سيمبسون"، وهي امرأة قابلتها في ولاية "كلورادو" كمثال على ذلك، سنجد أنها كانت تنظر إلى نفسها دوماً باعتبارها امرأة ذات رسالة اجتماعية، حتى عندما كانت تدير مشروعها الخاص الذي يعمل كوكيل لبعض من كبار شركات التأمين. بسبب هذا النظرة التي كانت تنظر بها إلى نفسها، فإن "سيمبسون" كانت دائماً من أوائل الأشخاص الذين يصلون موقع الحادث عندما يقع حادث سيارة أو يندلع حريق أو حتى عندما تقع حالة وفاة في عائلة من العائلات. ولقد كانت تفتخر بأنها لم تكن تكتفي فقط بتقديم العزاء وتخفيف آلام المصابين أو المكروبين، وإنما كانت تتولى أيضاً الدفاع عن قضاياهم والمطالبة بحقوقهم بنفسها، وخصوصاً عندما يكون عملاؤها من كبار السن أو من محدودي الدخل. ولكن المشكلة التي واجهتها -كما تقول- أن القرارات في المجال التأميني على وجه التحديد أصبحت، وبشكل متزايد تؤخذ بواسطة أجهزة الكمبيوتر بدلاً من البشر وهو ما دفعها عندما شعرت بأن قدرتها على تحقيق مصالح عملائها والتخفيف عنهم قد تضاءلت، إلى ترك عملها على الرغم مما كانت تحققه من مدخول جيد، لأن هذا العمل قد أصبح خالياً من المعنى. لذلك قررت "سيمبسون"، وهي لا تزال في بداية الخمسينات من عمرها، بيع المشروع الذي كانت تعمل فيه، والالتحاق مرة أخرى بالجامعة كي تصبح أخصائية اجتماعية، وهي الوظيفة التي رأت أنها يمكن أن تحقق لها المعنى. لم يكن الأمر سهلاً بالطبع حيث اضطرت إلى الانتقال إلى ولاية أخرى للالتحاق بالجامعة التي قبلتها قبل أن تحصل على درجة الماجستير، وتعمل في تلك الوظيفة التي تحس أنها قد خلقت لها. هناك عدد لا يحصى من الحالات التي لا تختلف في التفاصيل عن حالة "سيمبسون". ففي مسح تم إجراؤه مؤخراً وساعدت مؤسستي على إنجازه تبين أن نصف عدد الموظفين الذين تجاوزوا الخمسين من عمرهم يفضلون أن يتبعوا مساراً مشابهاً لذلك الذي اتبعته السيدة "سيمبسون"، وهو أن يحصلوا على وظيفة يكونون من خلالها نافعين لمجتمعاتهم المحلية وقادرين على المساهمة في تطوير تلك المجتمعات. وهم ليسوا على استعداد للانتظار حتى الوصول إلى سن الخامسة والستين من أعمارهم كي يقوموا بهذه الخطوة، وإنما يريدون إنجاز ذلك التحول مبكراً حتى يكون أمامهم وقت لإعادة التزود بالعدة والأدوات والمؤهلات التي ستساعدهم على القيام بأدوارهم الجديدة والمتعددة، وتوفر لهم القدرة على مواجهة تقلبات الأيام. مارك فريدمان الرئيس التنفيذي لمركز"سيفيك فينشر" المتخصص في الدراسات الخاصة بشيخوخة المجتمعات. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"