اختلفت التقديرات بشأن عدد فلسطينيي قطاع غزة الذين تدفقوا على مصر عبر معبر رفح بعد تدمير أجزاء من السياج والجدار الأسمنتي الفاصل بين مصر والقطاع فجر الأربعاء من الأسبوع الماضي. كان التقدير الأول أن المتدفقين يعدون بعشرات الآلاف. وارتفع هذا التقدير إلى مئات الآلاف، مع استمرار التباين حول عدد هذه المئات. وحتى إذا كان الحد الأقصى لهذا التقدير، وهو سبعمائة ألف، مبالِغاً فقد لا يكون العدد الفعلي أقل كثيراً. والحال أن ما يقرب من نصف الغزِّيين المحاصرين في بقعة هي الأعلى من حيث الكثافة السكانية في عالمنا الراهن، والذين تحولت حياتهم في السجن المعزولين في داخله إلى مأساة سيسجلها التاريخ، فروا في حركة فرار جماعي مثير للأسى سياسياً وليس فقط إنسانياً. فيا له من مشهد دال، بكل الأسف، على أن صمود الشعب الفلسطيني البطل قد لا يكون بلا نهاية. لقد ضرب هذا الشعب مثالاً فذاً في القدرة على تحمل ما لا يتحمله البشر والصمود على أرضه. فهل بدأت هذه القدرة في التراجع؟ السؤال مؤلم ولكن الهرب منه لا يقل إيلاماً عن هرب الغزِّيين من أرضهم. ورغم أن أحداً لم يتسن له أن يرى مشاهد الهجرة التاريخية من حيفا ويافا وعكا وغيرها، إبان نكبة 1948 التي توالت بعدها النكبات، فالأكيد أن مشهد الهرب من غزة مختلف نوعياً. فلسنا إزاء هجرة جديدة من الوطن أو موجة لاجئين أخرى. فقد هرب الغزِّيون من الجحيم ليتزودوا بما يعينهم على تحمله مجدداً، آملين في أن تصبح ناره أقل وطأة عليهم فيما بعد. ولكن هذا لا يقلل أهمية مغزى مشهد الهرب من غزة، وما ينطوي عليه من نكبة تختلف عن تلك التي ارتبطت باغتصاب الجزء الأكبر من فلسطين، ولكنها لا تدانيها خطراً. فقد بلغ صراع الأخوة أو الأشقاء الأعداء مبلغاً يكفي لإحداث نكبة يمكن أن تكون الأخطر في تاريخ قضية فلسطين. وها هي إسرائيل تمعن في استغلال هذا الصراع بوحشية غدت نادرة في هذا العصر الذي تعاظمت فيه حقوق الإنسان على نحو لا سابق له في تاريخ البشرية. وقد أصبح هذا الصراع هو التهديد الأخطر لقضية فلسطين اليوم، بعد أن وجدت فيه إسرائيل سبيلاً إلى تحقيق ما فشلت في إنجازه على مدى عقود، وهو تصفية القضية. فعندما يتحول التناقض، والذي يفترض أن يبقى ثانوياً بين فصائل فلسطينية، إلى تناقض رئيسي، لابد أن يكون هذا على حساب التناقض الجوهري بين حركة تحرر وطني متعددة الفصائل والقوة القائمة بالاحتلال والمانعة لتحرر الشعب الخاضع لسيطرتها. وهذا هو مصدر التهديد الجديد لقضية فلسطين اليوم، والذي يعتبر الأخطر في تاريخها، لأنه يتيح لإسرائيل حرية حركة غير مسبوقة. فنحن، إذن، إزاء مرحلة جديدة تظهر فيها معادلات مختلفة تُحدث تغييراً لم يكن منظوراً قبل سنوات قليلة. فما كان متصوراً أن يوضع الشعب الفلسطيني الصامد على أرضه في مثل هذا الموقف، حين يتحول من استأمنهم على قضيته إلى سندان يجعل المطرقة الإسرائيلية أكثر قسوة. لقد عاش الغزِّيون في ظل هذه المطرقة 31 عاماً، دون أن تصدر عنهم صرخة ألم رغم العذابات التي عانوها، بل كان السَّجان الإسرائيلي الممسك بالمطرقة هو الذي يصرخ في بعض الأحيان من فرط الفشل في إخضاع الشعب الصامد ومن شدة اليأس في وقت مقاومته. وهل نسينا ما تمناه رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابين ذات يوم وهو في شدة الغضب، حين حلم بأن يستيقظ صباح يوم ما فيجد غزِّة وقد غرقت أو ابتلعها البحر؟ لم يكن في إمكان رابين، ولا الأكثر تطرفاً منه مثل اسحق شامير وبنيامين نتانياهو، اللجوء إلى مثل هذا العقاب الجماعي الإجرامي الذي رأيناه أخيراً. والمفارقة، هنا، أن يفرض أيهود أولمرت العقاب الجماعي بسهولة وهو أكثر رؤساء الحكومات ضعفاً وتهافتاً في تاريخ إسرائيل. لكن ما كان صعباً على من هم أقوى وأكثر كفاية منه صار سهلاً بالنسبة إليه نتيجة صراع الأخوة الأعداء الذين لا يعلم كثير منهم أن حملات الدعاية الإسرائيلية في العالم اليوم تتضمن صوراً ملتقطة من أعلى لبعض الاشتباكات الدموية التي وقعت بينهم وراح ضحيتها فلسطينيون أبرياء. لذلك، لن يتيسر إنقاذ أهل غزة من إرهاب الدولة الإسرائيلية الذي تجاوز كل حد بدون وضع حد للصراع –الذي تجاوز بدوره كل حد– بين حركتي "حماس" و"فتح". فالأولوية القصوى اليوم هي للعمل على استئناف الحوار بينهما، لكن بمنهج جديد يستهدف السعي إلى توافق حقيقي على برنامج حد أدنى مؤقت لفترة قصيرة قد تكون عاماً واحداً، وقد تصل إلى ثلاث سنوات. فالمسألة ليست في الوصول إلى اتفاق على حكومة وحدة وطنية، ولا في برنامج هذه الحكومة على وجه التحديد. وكفانا ركضاً وراء أوهام الانتخابات والائتلافات الحكومية في منطقة ليست فقط خاضعة للاحتلال، بل مرهونة حياة سكانها بالقوة القائمة بالاحتلال. لذلك يتعين استئناف الحوار من نقطة بداية جديدة بحثاً عما يمكن التوافق عليه حقاً وصدقاً بغض النظر عن حجمه، وليس عما يُدفع الطرفان دفعاً إلى تفاهم اضطراري عليه. فالسعي إلى توافق حقيقي مهما كان متواضعاً هو خير من التطلع إلى تفاهم واسع النطاق لكنه زائف لا يعبر عن حقيقة موقف الطرفين. وربما لو كان هذا هو منهج إدارة الحوار بين "حماس" و"فتح"، منذ أن دعت إليه مصر ورعته للمرة الأولى في ديسمبر 2002، لما وصل التدهور في الوضع الفلسطيني إلى هذا المستوى. لكن لم يكن في إمكان مصر أن تفرض عليهما منهجاً قاوماه بأشكال ودرجات مختلفة. فإذا لم يكن الطرفان مستعدين لأن يساعدا في تجاوز أزمتهما التي تهدد بنكبة فلسطينية جديدة قد تكون أخطر وأكثر مرارة من كل ما سبقها، يصعب على أحد غيرهما أن يفعل ذلك. ولم تكن مصر وحدها التي سعت إلى توافق بينهما. فقد حاولت السعودية بدورها دون جدوى. غير أن ما حدث في الشهور الأخيرة، منذ موقعة غزة التي أريق فيها الدم الفلسطيني بأيد فلسطينية وحتى فرار الغزَّيين من أرضهم، يفترض أن يقرع جرس إنذار يصم الآذان. فإذا لم يسمعه قادة غزة ورام الله فهذا يعني أنهم فقدوا كل حواسهم، وليس فقط حاسة السمع، وتخلوا عن مسؤوليتهم الوطنية. ويبدو أن هذا هو ما حدث بكل أسف. فما زال قادة "حماس" و"فتح" مصرين على تبادل الاتهامات بدلاً من التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولذلك اتجهت مصر، التي دعتهم إلى حوار جديد في القاهرة، إلى إجراء حوار مع كل من "حماس" و"فتح" على حدة. وإذا لم يساعد ذلك في التقريب بينهما جدياً وليس شكلياً، لن يبقى عاصماً من النكبة إلا أن يفيق الإنسان الفلسطيني البسيط، الذي صنع ما يشبه المعجزات خلال مسار الصراع، من الارتهان إلى إحدى الحركتين اللتين انقسم بينهما الشعب الذي يقترب الآن من نكبة جديدة. وسيكون هذا هو الأمل الأخير في إنقاذ قضية فلسطين من مصير لا تستحقه ولكنها قد تلقاه إذا لم يسترد الشعب المكافح الصبور هذه القضية ويأخذها بين يديه ويفرز قادة جدداً. وليس هذا على الشعب الفلسطيني ببعيد، وهو الذي يمتلك تراثاً يندر مثله في النضال الوطني وتجارب ملهمة في تعزيز صمود أبنائه على أرضهم وبناء شبكات التضامن والتعاضد الاجتماعي. فإذا استعاد هذا الشعب الأمانة التي أودعها لدى فصائل لم تكن أهلاً لها، ربما يمكنه تجنب النكبة الجديدة التي كان الهرب من جحيم غزة عنواناً لها، أو حتى وضع حد بسرعة لتداعياتها الخطيرة إذا وقعت بحيث تكون هي الأخيرة في تاريخ النكبات الفلسطينية. أما إذا بقيت غالبيته الساحقة رهينة لدى "فتح" أو "حماس"، فربما تكون هذه النكبة هي الأخيرة أيضاً من حيث أن تداعياتها المريعة قد تقود إلى تصفية أنبل قضايا هذا العصر. والحال أننا قد نكون قريبين من نكبة هي الأخيرة سواء بمعنى أنه لا نكبة بعدها وإنما تصحيح للمسار على طريق الانتصار، أو بمعنى أنه لا قضية بعدها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.