"الواقعية السياسية", مصطلح قام المفكر ميكافيللي بتقنينه لكي يهتدي به "الأمير", أو صانع القرار في الدولة على وجه العموم. وهو لم يأتِ بشيء جديد في حقيقة الأمر لأن جميع الحكام على مرّ التاريخ مارسوا الواقعية السياسية بصورة أو بأخرى, فالأخلاق لا تترافق مع السياسة, خاصة فيما يتعلق بالصراع بين الأطراف. ونادراً جداً ما تظهر "أخلاق المحارب" إذا كان الصراع مغلفاً بغلاف ديني, كما كان الحال بين الكاثوليك والبروتستانت في الماضي, أو بين المسلمين واليهود كما هو الحال الحاضر. ولاشك أن الساسة العرب ومعهم شعوبهم يدركون الجوهر الديني الذي يغلف الصراع العربي- الإسرائيلي مهما أنكروا ذلك, بل إن هذا الغلاف أصبح أكثر إحكاماً مع تنامي هيمنة الجماعات الدينية على مقدرات الحكومات والشعوب العربية. وما يحدث في غزة التي قامت فيها "دولة" حماس, كما قامت "دولة" طالبان في أفغانستان من قبل, وقام الأميركيون بتسمينها أثناء فترة الحرب الباردة، ثم قيامهم بنحرها حين تمادت بضرب الأميركيين في عقر دارهم. والأمر لا يختلف كثيراً حين النظر إلى طبيعة الصراع الديني بين اليهود في إسرائيل وقادة "حماس". لقد كان الصراع العربي- الإسرائيلي في زمن جمال عبد الناصر, قومياً, وهو الآن صراع ديني. المشكلة أن إسرائيل والقادة الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة يعلمون ذلك ويساندون إسرائيل على أساسه, في حين أن العرب عاجزون عن تقديم نفس المساعدة لحركة "حماس" في قطاع غزة, لخشيتهم من استقواء الجماعات الدينية داخل مجتمعاتهم, في حين أن الدين الإسلامي يلزمهم بالمساندة, وخاصة أن العرب لا تنقصهم الموارد البشرية ولا العسكرية, حيث يتحول السلاح العربي إلى قطع خردوات بفعل الإهمال, فضلاً عن انعدام إرادة المواجهة. ويسوء الأمر حين يقرر العرب تبني السلام على استحياء!! ومما يؤسف له أن العرب والمسلمين الذين يساندون الفلسطينيين أعجز من مواجهة العدو الإسرائيلي, ولا يملكون سوى المساندة اللفظية من شجب واستنكار ودعوة وزراء الخارجية للاجتماع في جامعة الدول العربية, وربما يكون اجتماع قمة... لكن النتيجة في نهاية الأمر واحدة: العجز التام عن المواجهة العسكرية, ولن يتعدى نطاق المساندة بضعة ملايين يضخها بعض الحكام، لكن بقية الدول العربية لا تكاد تملك قوت يومها للشعوب التي ترزح تحت حكمها. ومن اللطيف ملاحظة أن الدول العربية مجتمعة لا تستطيع الاستغناء عن المساعدات الأميركية سواء العسكرية أو المادية أو الغذائية. ولذلك عليهم المشي على صراط ضيق حتى لا يقعوا في حالة من التورط الكامل في الشأن الفلسطيني. الفلسطينيون بدورهم يعيشون حالة متضخمة من "الأنا" الفارغة, وباعتقادهم أنهم يستطيعون مقارعة الإسرائيليين الذين يملكون القوة وإرادة القرار اللازم للقتل والتدمير, ولا ينتظرون موافقة أحد. فهم أقوياء عسكرياً وتقنياً وزراعياً، ولديهم اقتصاد قوي وعلاقات متعددة الأطراف في كل القارات, وبدونهم لا يستطيع الفلسطينيون الحياة لكونهم يملكون الطاقة اللازمة للحياة ليس في غزة فقط، بل وجميع المناطق الفلسطينية دون استثناء. وفي مقابل هذه القوة المتنوعة لا يكاد يملك أعضاء حركة "حماس" قوة تستحق الذكر. وبرغم كل هذا الضعف لا يزال أعضاء حركة "حماس" يعاندون الواقعية السياسية التي تقول لهم بكل بساطة, تفاوضوا مع الإسرائيليين اليوم قبل الغد من خلال السلطة الفلسطينية التي يتعامل معها العالم أجمع. وعلى رئيس دولة "حماس" المدعو إسماعيل هنية أن يعلم تمام العلم، كما يقول الكاتب شاكر النابلسي, أن العالم الغربي لا يمكن أن يقف مع الدولة الدينية، مهما كانت درجة العذاب التي يعيشها الفلسطيني.